دراساتصحيفة البعث

خطّ بايدن الأحمر مضرّجٌ بالدماء

سمر سامي السمارة

في الـ 26 من شهر أيار الماضي، وصل العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين إلى مخيم للاجئين في مدينة رفح بغزة، حيث شنّ الكيان الصهيوني واحدة من أفظع الغارات الجوية منذ بداية عدوانه المستمر على غزة.

وجاء القصف الذي أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 45 مدنياً من بينهم أطفال ونساء، وإصابة أكثر من 200 آخرين، بعد أسبوع من أمر المحكمة الجنائية الدولية والحكومات الأوروبية ومحكمة العدل الدولية إدانة قادة “إسرائيل”.

هكذا أظهرت الأحداث مجتمعة العزلة العميقة التي تعيشها الولايات المتحدة بسبب دعمها الثابت لحكومة الكيان الصهيوني، وخاصة مع مواجهة الإدارة الأمريكية لمعضلة، ما إذا كان سيتم اعتبار العدوان الإسرائيلي الأخير بمنزلة تجاوز للخط الأحمر الذي تم الترويج له بشكل كبير، والذي يجبر إدارة جو بايدن أخيراً على إعادة النظر في دعمها لحملة التطهير العرقي الإسرائيلية؟ أم أن البيت الأبيض سيتراجع أكثر نحو احتضان “إسرائيل” ويواجه عزلة عالمية متزايدة؟.

بالنسبة للفلسطينيين في غزة، أصبحت الظروف التي لا يمكن وصفها أصلاً أسوأ بشكل لا يمكن تصوّره عندما شنّت “إسرائيل” غاراتٍ جوية على حي تل السلطان في رفح، حيث كان الحي مكتظاً بالعائلات النازحة في الخيام، التي لم يكن لديها مكان آخر تلجأ إليه مع توسّع العدوان البري الإسرائيلي على المنطقة.

وللإشارة، كانت “إسرائيل” قد ادّعت في وقت سابق، أن المنطقة ستكون آمنة، بل أمرت الفلسطينيين الفارين من نيران المدافع والغارات الإسرائيلية في أماكن أخرى في رفح بالذهاب إلى حي تل السلطان، حيث أسقطت قوات الاحتلال منشوراتٍ باللغة العربية، كُتب فيها “من أجل سلامتك، نطلب منك مغادرة هذه المناطق على الفور والذهاب إلى… المنطقة الإنسانية في تل السلطان”، مضيفة بخط قاتم: “لا تلومونا بعد أن حذرناكم”.

أدّت الغارات الجوية إلى إشعال النار في الخيام البلاستيكية الواهية التي لجأ إليها الفلسطينيون النازحون بحثاً عن الأمان، ولم يكن هناك مأوى حقيقي ولا طعام ولا دواء ولا إمكانية الحصول على المياه عندما اشتعلت النيران في الخيام، وما من وسيلة تساعد في إخماد النيران أو مساعدة الناس على الخروج.

في الواقع، أدّت الغارة إلى احتراق عشرات الفلسطينيين وهم أحياء، كان أغلبهم من النساء والأطفال، حتى إن بعض الجثث كانت متفحّمة لدرجة أنه لم يكن من الممكن التعرف على هوياتهم. وفي حين أشارت الإحصائيات الأولية إلى استشهاد 45 شخصاً على الأقل، من المتوقع على نطاق واسع أن ترتفع الأرقام.

عزلة واشنطن المتزايدة 

على الرغم من ادّعاء بايدن المعلن التزامه بـ “النظام القائم على القواعد” ووعده بوضع حقوق الإنسان في قلب سياسته الخارجية، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض في الأمم المتحدة لمنع وقف إطلاق النار وحماية حليفتها الدائمة “إسرائيل”، الأمر الذي عمّق عزلتها.

وفي المحكمة الجنائية الدولية، طلب المدعي العام كريم خان، من القضاة إصدار مذكرة اعتقال بإدانة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الاحتلال يوآف جالانت لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبينما رحّبت معظم دول العالم بالأمر، ردّ البيت الأبيض باستياء، وهدّد أعضاء الكونغرس بمعاقبة موظفي المحكمة الجنائية الدولية وعائلاتهم، وهي العقوبات التي أشار كبار مسؤولي إدارة بايدن إلى أنهم سيدعمونها.

جدير بالذكر، أن بايدن ليس أول رئيس يهدّد المحكمة الجنائية الدولية، فعندما فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، فرضت إدارة ترامب عقوبات على المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا وموظفيها، بما في ذلك تجميد الأصول ورفض منح تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما تولى بايدن منصبه ألغى تلك العقوبات، ولكنه أبقى على ما يسمّى “قانون لاهاي” الذي أصدره جورج دبليو بوش عام 2002، والذي يخوّل الجيش الأميركي حماية أي مواطن أميركي أو مواطن من حلفاء محدّدين للولايات المتحدة ــ بما في ذلك “إسرائيل” ــ ممّن قد يواجهون إدانة في المحكمة الجنائية الدولية، ولا يزال هذا القانون ساري المفعول حتى اليوم.

تجاوز الخطوط الحمراء

للمرة الأولى، قامت الدول الأوروبية الرئيسة بتوجيه أصابع الاتهام إلى واشنطن بشأن دعمها لـ”إسرائيل”، حيث أعلن حلفاء الولايات المتحدة مثل إسبانيا والنرويج، إلى جانب أيرلندا في 22 أيار، عن خطط للاعتراف الدبلوماسي الكامل بفلسطين كدولة مستقلة.

إن الدعم الأميركي الطويل الأمد لـ”حل الدولتين” لم يسمح قط بالاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل أن توافق “إسرائيل” عليها، لذا، في حين أن الاعتراف رمزي إلى حد كبير، فإن تأكيده من حلفاء الولايات المتحدة المقرّبين في هذه اللحظة يُظهر بشكل أكبر عزلة الولايات المتحدة، وقد حذرت الصحافة الإسرائيلية بالفعل من أن أيرلندا تهدّد بفرض عقوبات على الاتحاد الأوروبي إذا استمرّت “إسرائيل” في انتهاك الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في الرابع والعشرين من أيار بشأن رفح.

في ذلك اليوم، أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها بالإجماع تقريباً لمصلحة طلب جنوب إفريقيا العاجل باتخاذ تدابير مؤقتة إضافية تهدف إلى حماية الفلسطينيين من المجازر التي تركبها قوات الاحتلال، والتي وجدت المحكمة بالفعل أنها تشكّل أعمال إبادة جماعية.

اتفقت المحكمة مع جنوب إفريقيا على أن التصعيد العسكري في رفح، الذي كان قد مضى عليه حوالي أسبوعين وقت صدور الحكم، يشكّل مستوى جديداً من الخطر على الفلسطينيين في غزة. ورداً على ذلك، أمرت المحكمة “إسرائيل” “بالوقف الفوري لعدوانها العسكري” في رفح. وقد رحّب الرأي العام العالمي إلى حد كبير بحكم المحكمة، حيث عكست العناوين الرئيسية في صحيفة واشنطن بوست وغيرها من وسائل الإعلام الرئيسية المخاوف السابقة من أمثال صوت أمريكا، وفرانس 24، وإن بي سي نيوز، وأكدت جميعها عزلة واشنطن المتزايدة، فقد أصبح من الصعب تبرير مزاعم الولايات المتحدة بأن “إسرائيل” لا تنفّذ عدواناً عسكرياً كبيراً في رفح في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الجهنمي على تل السلطان.

ففي أعقاب الهجوم المميت، ادّعى كبار المسؤولين في واشنطن أن العدوان الإسرائيلي الأخير على رفح لا يشكّل تصعيداً “كبيراً” من شأنه تجاوز الخط الأحمر ويؤدّي إلى قطع الدعم العسكري الأمريكي للعدوان، كما طرح بايدن في وقت سابق هذا الشهر.

من المؤكد أن التبرير الأمريكي لم يعُد ينطلي على أحد، فقد أعاد صوت الصرخات المسجّلة لأطفال يحترقون في الخيام والتكلفة الإنسانية لأزمة غزة إلى الصفحات الأولى لأبرز وسائل الإعلام.

أثار ادّعاء إدارة بايدن  حول عدم تجاوز الهجوم على رفح الخط الأحمر للرئيس، الغضب في جميع أنحاء العالم وجعل الولايات المتحدة أكثر عزلة على مستوى العالم.

ويرى مراقبون أن ما يحدث في العالم من غضب يرفض العدوان الجائر على غزة، بمنزلة البداية، ولكن لإنهاء العدوان لابدّ من وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء كامل لعمليات نقل الأسلحة الأمريكية.