الانتفاضة الطلابية تبشّر بالتحرّر من اللوبي الصهيوني
د. معن منيف سليمان
كان اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ولا يزال، صاحب القرار النهائي بشأن الأمور المتعلقة بالصراع العربي – الإسرائيلي، وقد نجح على مدار سنوات طويلة في التأثير في المؤسسات الأمريكية ودفع صنّاع القرار لتبنّي سياسات تصبّ في مصلحة الكيان الإسرائيلي، وتوفّر له الأمن والحماية والاستقرار، ما يجعل من الصعوبة إحداث تغيير داخل مؤسسات صنع القرار بالإدارة الأمريكية سواء أكانت جمهورية أم ديمقراطية، وخاصة أن اللوبي الصهيوني أنتج تحالف الدفاع من أجل “إسرائيل” الذي يروّج خطاباً إيجابياً عاماً حول الكيان الإسرائيلي عبر السيطرة على وسائل الإعلام المملوكة في أغلبها لصهاينة، وتتمتع بنفوذ وسيطرة شبه تامة في الانتخابات الأمريكية، وتدعم التطهير العرقي الذي يمارسه الكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
وبناءً على هذه المعطيات فإن اللوبي الصهيوني يؤثر بشكل فعّال في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، وما يتعلق بالصراع والنفوذ في “الشرق الأوسط”. فمن خلال ضغط اللوبي الصهيوني تقدّم الولايات المتحدة دعماً غير محدودٍ للكيان الإسرائيلي في حربه الوحشية على قطاع غزة، عسكرياً وسياسياً ولوجستياً، وفي الترويج لسياساتها المبنية على المغالطات حول ما يرتكبه الصهاينة من مجازر وإبادة جماعية ضد المدنيين في غزة، وتدمير البنية التحتية، وتقديمه الكيان على أنه ضحية للإرهاب ويحق له الدفاع عن النفس في المحافل الدولية وأمام العالم.
ولكن على الرغم من هذا النفوذ للوبي الصهيوني في مركز القرار الأمريكي، إلا أن مأساة الشعب الفلسطيني وصموده الأسطوري فتحا الطريق أمام الشعوب في العالم أجمع للتعرّف على قضيته وخاصة الولايات المتحدة. فقد أخفقت الآلة الإعلامية المضللة التي كانت ترسم صورة مغايرة للحقيقة والواقع، فانطلقت الاحتجاجات والاعتصامات من الجامعات الأمريكية تنديداً ورفضاً للمجازر الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في قطاع غزة بدعم ومشاركة أمريكية.
هذه الحالة تبشر بأن هناك جيلاً جديداً بدأ يتحرّر من قيد الروايات التي كانت تروّج لها الدعاية الصهيونية في أمريكا. فالكيان الإسرائيلي تأسّس في الواقع ليكون قاعدة عسكرية للغرب الاستعماري، وقد أدرك الجيل الجديد الأمريكي أن هذا الكيان هو كيان استعماري استيطاني يسعى للاحتلال والتطهير العرقي وتهجير السكان الأصليين واستبدالهم بمستوطنين غرباء مستعمرين، هذه الحقيقة بدأت منذ عام ١٩٤٨، وتستكمل حلقاتها الآن في غزة.
وبعد سبعة أشهر من القتل والإبادة الجماعية، أصبحت القضية الفلسطينية منتشرة في كل مكان من العالم، في حين أصبحت “إسرائيل” في قفص الاتهام أمام المحكمة الدولية، ويواجه قادتها وكبار المسؤولين فيها تهمة ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو”.
لقد أخفقت الدعاية الصهيونية التي تروّج للكيان الإسرائيلي بأنه يخوض معركة سلام، وأنه واحة الديمقراطية في “الشرق الأوسط”، يظهر ذلك جلياً في ردّة فعل “نتنياهو” الحادة وموقفه الغاضب من توسّع الاحتجاجات ونجاحها في قلب الصورة باتجاه الحقيقة التي تظهر فيها “إسرائيل” على أنها تمثل الجريمة والإرهاب، وأن الولايات المتحدة هي الداعم والشريك في الجريمة، ما يعكس قلقاً إسرائيلياً حقيقياً.
كتبت الصحفية الكندية “نعومي كلاين”: إن “الصهيونية صنم كاذب أخذ فكرة الأرض الموعودة وحوّلها إلى صك بيع لدولة عرقية”. وأضافت: “لقد أوصلتنا الصهيونية إلى لحظة الكارثة الحالية، وحان الوقت لنقول بوضوح: لقد كانت تقودنا دائماً إلى هنا”.
إن الانتفاضة الطلابية خرجت من حرم الجامعات الأمريكية نصرة للشعب الفلسطيني ضد جرائم الكيان الإسرائيلي الذي يتحكم بمفاصل القرار الأمريكي بضغط من اللوبي الصهيوني، وهذا هو جوهر القضية ومصدر الخطر الذي يقلق الصهاينة، ذلك أن تعاظمه وانتشاره في صفوف الشعب الأمريكي ستتبعه تحرّكات معادية للكيان الإسرائيلي، وخاصة أن الشعب الأمريكي الذي يعاني من أزمات داخلية يدفع الضرائب من أجل أن تتحوّل للإسرائيلي الذي يعيش بأفضل حال، ويحصل على خدمات اجتماعية ورعاية طبية لا يحصل عليها المواطن الأمريكي.
هذا الخطر المحدق بالصهيونية دفع الكاتب الأمريكي اليهودي المشهور توماس فريدمان إلى التحذير بعيد الانتخابات الرئاسية الأخيرة من أن الرئيس “جو بايدن” سيكون آخر رئيس ديمقراطي مؤيّد لـ “إسرائيل” في الولايات المتحدة، ولا سيما بعد أن أشارت استطلاعات الرأي العام إلى أن الأغلبية الساحقة من الشباب الأمريكي تدعم الحق الفلسطيني، وتعارض سياسات إدارة “بايدن” تجاه الحرب على غزة.
وتتبدّى مظاهر التحرّر من خلال مطالب طلاب الجامعات، فقد طالب طلاب جامعة كولومبيا بإنهاء استثماراتها في شركتي التكنولوجيا االعملاقتين أمازون وغوغل اللتين أبرمتا عقداً للحوسبة السحابية بقيمة ١.٢ مليار دولار مع الحكومة الإسرائيلية، كما طالب طلاب جامعة ييل بسحب استثماراتها من جميع شركات تصنيع الأسلحة التي تستخدم في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
يتّضح ممّا تقدم أن هدف الانتفاضة الطلابية هو الصهيونية وشركات تصنيع الأسلحة الإسرائيلية في الولايات المتحدة، وهو اللوبي المؤيّد للكيان الإسرائيلي الذي يقوم بالتشهير وتشويه صورة السياسيين الأمريكيين الذين يدعمون القضية الفلسطينية ويتبنّون روايتها، فتلصق بهم تهمة “معاداة السامية”. واللافت للانتباه أن الانتفاضة الطلابية ضد الصهيونية يقودها جيل جديد من اليهود أيضاً الذين يشاركون بأعداد كبيرة في الاحتجاجات الجامعية.
إن الانتفاضة الطلابية جاءت بسابقة غير معهودة، وهي مناهضة ومعاداة الصهيونية، ورفض السياسات الأمريكية المساندة لها، وهذا يشكّل أنموذجاً إرشادياً ملهماً للطلبة حول العالم للانتفاض ومناهضة الإمبريالية والاستعمار وتفكيك الصهيونية.
ويمنح صعود التيار المناهض للكيان الإسرائيلي في الولايات المتحدة زخماً كبيراً لحركة “المقاطعة الدولية” التي تطالب بمعاقبة الكيان عبر مقاطعته وفرض عقوبات عليه، بسبب سجلّه الإجرامي بحق الشعب الفلسطيني، وهذا التحوّل يسهم في نزع الشرعية الدولية عن الكيان، ويعرّضه لمخاطر اقتصادية كبيرة.
إن الجيل الأمريكي الجديد أثبت أنه يتمتع بقدر كبير من الوعي، ولم ينخدع بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتشدّق بها أمريكا، وظهر أنها مجرّد شعارات جوفاء وكاذبة. هذا الجيل هو نفسه الذي ينتظره المستقبل لقيادة أمريكا، ومن المرجّح أنه سوف يظهر تأثيره وقوته على التغيير في مستقبل ربما لا يكون فيه للوبي الصهيوني قوة التأثير التي يمكن أن تمكّنه من أن يكون هو صاحب القرار النهائي بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي، والتحكم بقضايا منطقة “الشرق الأوسط”.