ثقافةصحيفة البعث

“عصافير” توفيق أحمد “تنقر” في إنصاف الذّات والقصيدة

نجوى صليبه

قالت: أتولدُ بالحرام القصيدة   قلنا: نعم وتفوق كلّ حلال

أوما تعبنا من ديار عُنيزة     ووقوفنا زمناً على الأطلال

ممّا نظم الشّاعر توفيق أحمد ردّاً على من نعت قصيدة النّثر بـ”بنت حرام” التصقت بها الخيانة لكونها غير شرعية، ويعطف على ذلك: “آن الأوان لأن يغادر الشّعراء من “متردّمهم” إلى فضاءات أخرى تطلق فيها أجنحة الحروف أعلى فأعلى”، ويضيف: “من البدهي أنّ النّص النّثري يحمل مضامين عاطفية ونفسية واجتماعية وسياسية، بمعنى أنّها قادرة على استيعاب جميع الأفكار ونثرها بشكلٍ حيّ وناضج غير عابئة بالأشطر والقوافي، نهاياتها لا تتفق مع موسيقا معينة وذلك لمصلحة نهايات فكرية، ولها ملامح خاصّة متعدّدة تجعل كتابتها ليست بالأمر اليسير، والنّثر قيمة بحدّ ذاته وتكمن قيمته أيضاً في شعريته، بالإضافة إلى محاولة الخروج من التّركيبة النّمطية المطلقة، والمساعدة على الخروج من رتابة الماضي.. لا أعتقد أنّ كاتب النّصوص النّثرية يريد الإساءة للقامة السّامقة الفراهيدي، فلماذا لا يخطر ببالنا أنّها تحمل على عاتقها همّ إزاحة الغطاء عن جماليات شعرية جديدة مطمورة في لغة النّثر؟”.

وهذا بعض ممّا يذكره في تقديمه لمجموعته الشّعرية الجديدة “عصافير تنقر سنابل كفي”، وهي مقدّمة يقال فيها الكثير، ربّما أكثر ممّا يقال في القصائد ذاتها، لكن السّؤال الذي يخطر بالبال أثناء وبعد قراءتها هو: لماذا اختار توفيق أحمد أن يقدّم كتابه بنفسه؟، هل لأنّه لا يثق ببعض النّقاد أو مدّعي النّقد؟ أم لأنّه أراد أن يقول قوله هذا بعد خمسة وأربعين عاماً من كتابته الشّعر بأشكاله المختلفة، لتكون هذه المقدّمة توثيقاً لرأيه في قصيدة النّثر؟، وقد يدلل على ذلك قوله: “أنا لا أقبل الوصاية بكلّ أنواعها، بيد أنّني قد أستفيد من مقولةٍ طائشة أطلقها مجنون عارٍ يجري في الطّرقات، وكلّ النّصوص شرعيّة، أكانت قصيرةً أم طويلةً، ساخرةً أم جادّةً، وأقتدي بذلك بأبي حيّان التّوحيدي والجاحظ على سبيل المثال لا الحصر”، وقوله أيضاً: “لست منظّراً في الحالة النّقدية للشّعر والنّثر العربي، لكنّني أحببتُ أن أقدّم لهذا الكتاب ببعض ما تيسّر لديّ من مخزون تراكم خلال سنوات سابقة”.

وأيّاً يكن السّبب وراء تقديمه لكتابه، نكرر القول إنّها مقدّمة يقال فيها الكثير، تحليلاً وتنظيراً، وشرحاً، ولاسيّما عندما يقول: “أكتب من دون ارتباك.. ذاهباً بقلمي حتّى آخر مداده، وأبتكر تشظّياتي في حالة رخاء طبيعية، ولا أستورد شيئاً من أحد، وأعتقد أنّ نصوص هذا الكتاب ليس تقليداً غريباً أو استنساخاً لتجربة أحد، إنّما هي محفورةٌ بأزاميل بيئتي وتجربتي المعرفية والجمالية، وأفكارها ليست مصاغة إلّا من تفاصيل الحياة وقراءاتها التي عشتها وأعيشها”، في الحقيقة هذا الكلام كان يجب أن يقوله ناقد موضوعي معروف بصدقه ومصداقيته وأمانته، قرأ توفيق أحمد قراءةً تليق بإنتاجه الأدبي ومسيرته الإعلامية أيضاً.

وبالانتقال إلى المجموعة، فالعنوان “عصافير تنقر سنابل كفّي” بحدّ ذاته مطلع قصيدة شأنه شأن بقية العناوين الفريدة لغةً وصورةً وتخييلاً، على خلاف عناوين شعراء كثر التي تقتصر على كلمة أو كلمتين، أمّا إن فتحنا كفوفنا أمام هذه العصافير وأصغينا إلى نقراتها فسنسمع كثيراً من الحبّ والأمل والخذلان والحياة والموت والدّهشة والشّكر والعرفان، باختصار سنسمع ما ذكره الشّاعر توفيق أحمد في العنوان الفرعي “تأملات في الحبّ والحياة”، وإنْ وجّه غالبية العناوين إلى أنثاه الحاضرة حيناً والغائبة حيناً آخر، مرّة آمراً وطالباً كـ”عززي إرادتي باستقصاء أشيائك” و”وزّعي مشمشك على نزقي”، ومرّة متذكّراً وشارحاً كـ”وقع أقدامها ولحظات الاستنفار” و”ظباؤها ترعى في دمي” و”ممحاة لذاكرة رغائبها”.. ربّما هو العذاب في الحبّ وعدمه، يقول تحت عنوان “تمارين الألم”:

حضورك في الغياب والحضور،

هو الحاجة الدّائمة لتقبّل الرّوح في الحياة..

ولتقبّل الرّوح لروحها

في عوالمها المجهولة الصّعبة على التّفسير والشّروحات

لذلك أغيب عن هواي في مجاهيل أنتِ سرّها

إلى قوله:

يا لك من يمامة لا تستطيع اختيار روضٍ واحدٍ

يا لك من ساردةٍ في الخيارات

فيرتديك حقلٌ

ويخلعك حقلٌ آخر.. هل هو الارتياب؟.. هل هو الأنا العالية؟

هل هو البحث عن أكثر الأغصان خضرةً

لتحطّ عليه ساقاك النّحيلتان.. هل هو الشّكّ والعذاب

في زمن تخالط فيه الحبّ بالكراهية

إنّه في قوله هذا ينتقل من الشّأن الخاصّ إلى العام، فكم من عاشقة خائنة وكم من عاشق خائن؟، وكم من متلوّن ادّعى الحبّ فعلقت بشباكه أرواح طيبة، بعضها تجاوز المحنة وبعضها جلد ذاته حدّ الموت أو حدّ الانتقام؟، لكن العاشق هنا مختلف عن البقية، فها هو يترك الماضي والعتاب ويخلق للصّلح متّسعاً، ويدعوها إلى التّفاوض:

أيّتها القابعة خلف الأنهار والصّباحات

أدعو قصائدك للصّلح مع أقلامي وأصابعي

فأنا لا أتبرّأ من لحظة وجدٍ تظلل روحي

بجموحها المكابر

لا أدري كيف كتب توفيق أحمد كل هذا الحبّ بهذه الصّور المتنوعة والمختلفة والغنية والجديدة في أكثر من مكان، ربّما نعود هنا إلى ما ذكره عن المخزون الثقافي، لكن هنا سنركّز على مخزون ذاكرته من الرّيف والطّبيعة الخلّابة والمتنوّعة بجغرافيتها المختلفة، يقول:

هم آباؤنا أيضاً شيوخ هذي الجبال

وصيّادو وحشتها ووحوشها

من رضعوا وأرضعونا من أثداء تلك الغيوم،

صفات البذل والعطاء..

ثمّ اكتفوا بترويضها قانعين بقسمة الرّبّ

يا لذاك الرّيف البعيد القريب من قلبي

ما زال قنديل الرّوح وتوهّج شعلته

يستقدم النّجوم القصّية لتغمر قلوبنا الصّغيرة بشتّى صنوف الدّهشة.

من ذاك الرّيف وتلك الذّاكرة البصرية واللفظية والسّمعية نسج توفيق أحمد صوره الشّاهقة في المعنى والفائقة في الخيال، يقول: “أنا موكب من الأمطار يمشي على الأرض وأنت سيدة المواكب”، فكيف لمن لم يتجوّل تحت هذه الأمطار الغزيرة أو من لم يغرق فيها من قدميه حتّى رأسه أن يحبك ويخيط هذه الصّورة؟ وكيف لمن لم يتنفس رائحة الزّعتر البري وحبقات والدته التي توقظها بهدوء أناملها وحبّها أن ينسج قوله:

أنتِ نكهة الزّعتر والحبق في مساماتي

وبكاء الينابيع عندما تهجرها أيادي الصّبايا

وزحام “القواديس” على ضفّة النّبع..

سأعود لأجلك كما كنت

أنانياً متوحّشاً لطيفاً

يصطاد الأحلام والقبلات

وجنون الجوري في البساتين

ليست الذّاكرة فحسب من يقود هذه الشّعرية بانسيابية وسردية وحكائية، إنّه الحنين إلى الوديان السّارحة بالأحلام والجبال الرّاسخة في القلوب والسّواقي المتأهبات لكلّ متعطّش، يقول في “رسالة إلى الريف”:

أربعون عاماً في المدينة

وقبّرات السّفوح تنقر قمح كفّي

أربعون مطراً

وما زالت دندنة العصافير تطرب مسمعي

والأزاهير تحني هاماتها كنسيم قصائدي

كلّ ما كتبته كان بفضل الرّيف

وجع السّنابل، وظمأ السّواقي

وصوت الفراشات القادم من كلّ الأمكنة

للحواكير في ضميري قداسة عالية

رمتني أمّي إلى العالم بعجالة من أمرها

في غابة السّنديان

حيث الأعشاش المهجورة والمسكونة بالألفة

فالرّيف لا يحتاج إلى نواطير.

يُذكر أنّ المجموعة تقع في 278 صفحة، وصادرة عن “دار بعل للطّباعة والنشّر والتّوزيع” 2024، أمّا الغلاف فبتوقيع الفنّان رائد خليل، والإخراج الفنّي لوفاء السّاطي.