العاشر من حزيران.. أمّة في رجل
أحمد حسن
في تسعينيات القرن الماضي، قال أحد المفكرين والسياسيين العرب إن “أمريكا تحب رئيس بلاده لكنها لا تحترمه، وهي لا تحب الرئيس حافظ الأسد ولكنها تحترمه”؛ وإذا كان الجميع يعرف ماذا يعني، وطنياً وأخلاقياً، أن لا “يحبّك” الخصم بل أن يحترمك، فإن تلك الشهادة، التي دفع هذا السياسي ثمنها من منصبه الكبير، كانت واحدة من آلاف الشهادات الدالّة على شخصية رجل اعترف له الخصم قبل الصديق بمواصفات أهّلته لا ليكون أحد أبرز رجالات مرحلة تاريخية معيّنة فقط، بل أحد الذين كلما ابتعدت ذكرى رحيلهم الجسدي عن هذه الدنيا كلما ثبُت صدق مواقفهم وبعد رؤيتهم، وترسّخ أكثر وأكثر إرثهم السياسي والفكري في وعي شعوبهم الباحثة عن مكان تحت الشمس. والحال فإن احترام “العدو” أو “الخصم” للقائد المؤسس لم يأت من فراغ، ولم يكن لتميّزه بصفات شخصية فقط – وهذه الأخيرة كثيرة جداً عند القائد المؤسس – بل لدوره وموقعه في الصراع، وقدرته الهائلة على إدارته بما لا يقتصر على إفادة بلاده فقط، بل أمته الأكبر كلها، لسبب مهم جداً هو إيمان القائد المؤسس بأن السياسة ليست حملة من العلاقات العامة فقط – وهي كذلك من أحد جوانبها – بل هي أولاً بُنى ودينامياتٍ وموازين قوى ومقدمات ومقاصد وغايات وتاريخ وجغرافيا، سياسية وطبيعية؛ وإلى ذلك كلّه أضاف القائد المؤسس جرعة كبيرة من الشجاعة والكرامة الشخصية والوطنية ليصنع ما اصطُلح على تسميته لاحقاً “سورية أكبر بلد صغير في العالم”، والدولة، والقائد، التي، والذي، لا يمكن تجاوزهما في المنطقة على الإطلاق.
والأمر فإن ذلك كلّه كان خياراً وقدراً في الآن ذاته، فقد كان يمكن لسورية، نظرياً على الأقل، أن “تضع رأسها بين الرؤوس”، كما يقال، وتنحاز – في خضم التجاذبات الدولية الناجمة عن نتائج الحرب العالمية الثانية – إلى الخيارات الضيقة لتنطوي عليها مع بعض “الحياد الذكي” – كما يسميه البعض – الذي يواكبه تنازلات سياسية هي بالتعريف الحقيقي تخلّيات مفضوحة عن قضايا المنطقة العميقة. لكن الأسد نبذ ذلك منذ البداية، كما قال فرنان رويون، وهو سفير فرنسي أسبق في سورية، واختار الالتزام بقضايا أمته لأنه كان يعبّر، بكل دقة، عن سورية التي تنتمي لذاتها بقدر ما تنتمي لأمتها الكبرى ولتموضعها الجغرافي ولتاريخها الذي جعل قدرها أن تكون على قدر أمتها، ما يقتضي كمعادلة ارتباطية كاملة أن يحكمها رجل من أمة ليكون بقدره وخياره في الآن ذاته أمة في رجل.
وبهذا السياق فقط، نفهم حركة وحراك القائد المؤسس سواء عندما قام بالحركة التصحيحية عام 1970، أو بحرب تشرين التحريرية عام 1973، أو بقيادة عملية إعادة السلام إلى لبنان، أو في موقفه من حربي الخليج، أو بانخراطه الكامل في القضية الأم (فلسطين)، رغم كل المصاعب والعقبات، الطبيعية والمفتعلة، التي واجهها، ورغم كل التضحيات التي قدّمها، فقد كان يعي أن المعارك الجانبية تشابه التسويات الجزئية من حيث أنها لا تؤدي، في المحصلة، إلّا إلى توكيد تفوق العدو، لذلك قال مثلاً عن اتفاقية “أوسلو” – التي “طبّل” لها الجميع حينها – ما معناه أن كل بند منها يحتاج إلى اتفاق آخر لتنفيذه، وما جرى منذ تلك اللحظة وحتى اليوم، في فلسطين، ليس إلّا دليلاً على صحة ما ذهب إليه.
خلاصة القول، في ختام كتاب “الأسد والصراع على الشرق الأوسط” لـ باتريك سيل، قال الكاتب: إن الأسد “يمثّل، أكثر من أي رجل دولة عربي يعاصره، تطلّع العرب إلى أن يكونوا أسياد مصيرهم في أرضهم”، وذلك ما قالته الوقائع السابقة واللاحقة أيضاً؛ وحين سأل سيل الرئيس عن جملة يختم بها الكتاب أجابه: “قل ببساطة إن الصراع مستمر”.. وذلك هو واقعنا اليوم كما هو مآل القادم من الأيام.