الصالونات الأدبية بين الأمس واليوم
جمان بركات
تقوم فكرة الصالون الأدبي على اجتماع مجموعة من الأدباء بشكل دوري قد يكون أسبوعياً أو شهرياً حسب ما تسمح لهم ظروفهم، وتوظف هذه الجلسات لمناقشة قضايا الأدب والحياة وتبادل الآراء حول القضايا المطروحة.
ويختلف الباحثون حول أقدم صالون أدبي في التاريخ تبعاً لتحديد المفهوم وخصائصه الذي يحدده كل باحث، فكان سوق عكاظ إحدى العلامات التاريخية البارزة في هذا المجال، وهناك من يرى أن صالون “عمرة” تلك المرأة التي عُرفت بفكرها النير ورأيها السديد، هذا الصالون الذي يعود إلى القرن الأول للهجرة، بينما رأى البعض أن صالون سكينة بنت الحسين كان الأهم والأشهر في عصرها، فكان لها دور بارز في خلق حالة إبداعية ضمت عدداً من رموز الشعر في تلك الفترة، وفي العصر الأندلسي يتفق الباحثون على اعتبار صالون الشاعرة “ولادة بنت المُستَكفي” والتي توفيت عام 1078 أهم صالونات الأندلس في ذلك الوقت، وفي العصر الحديث ظهر صالون “مي زيادة” التي عرفت بأدبها وثقافتها وحديثها وقوة حجتها، وكان صالونها يضم أبرز الأدباء والمفكرين لعل أهمهم عباس محمود العقاد وطه حسين وعدد من كبار الأدباء. وهناك أيضاً عدد من الصالونات التي أنشأها أدباء رجال في مصر كصالون عباس محمود العقاد وأحمد شوقي وصولاً إلى صالون الأهرام الثقافي بإدارة الأديب جابر عصفور وغيرها من الصالونات التي لعبت دوراً مهماً في خدمة الأدب والفن في لبنان وسورية والعراق وغيرها.
الصالون الأدبي وسيلة مهمة للقراءة والحوار بين الأدباء، وانعقاد الصالونات الأدبية تحت عنوان الإبداع يعني الكثير لاسيما أن الأدباء لديهم رسالة للمجتمع، ولذلك يشكل الأدباء القاسم المشترك بحضورهم سواء في الصالون الأدبي بشكله القديم والصالون الأدبي المعاصر، أما الإبداع فقد كان السمة الأساسية للصالون القديم بينما في الصالون المعاصر لم يبق الإبداع هو الأساس في إنشاء الصالون بل أخذ حالة من “البريستيج” الاجتماعي.
وتباينت الآراء حول المنتديات والصالونات الأدبية وأهميتها كظاهرة ايجابية وضرورة حقيقية في كل زمان ومكان، إذ كان للظروف السياسية والاجتماعية سبباً رئيسياً لظهورها، فكانت المتنفس الحيوي الذي يثمر على مر التاريخ أدباً راقياً، وهناك رأي آخر يرى أن الصالونات الأدبية جاءت كبديل معادل للأسواق الأدبية العربية مثل عكاظ والمربد وغيرها.
وامتد دور الكاتبات في إقامة صالونات تحمل أسماءهن، وتواصل هذا الدور إلى أيامنا هذه، ولابد هنا من إظهار دور المرأة الريادي لما لها من قدرة على الاحتواء والقيام بأعباء كبيرة، ويحدثنا تاريخ أدبنا العربي عن هذه الصالونات والمنتديات بأصالة ورسوخ، عبر حضور ومشاركة كبار الأدباء ورجال الفكر والتنوير كل في عصره، واستمر الحال حتى التاريخ المعاصر إذ نجد مثلاً صالونات بأسماء سيدات سوريات كان لهن حضورهن الأدبي والفكري عبر الصالونات التي أنشأنها كـ “مريانا مراش وماري عجمي ونازك العابد وحنان نجمة وغيرهن” من سيدات الصالونات التي شكلت حضوراً أدبياً مازال ماثلاً في الوجدان ويمثل بوصلة لنا في سبر أغوار الأدب والثقافة على مر التاريخ، هذه الصالونات بشكلها التقليدي توقفت في أواخر تسعينيات القرن الماضي لتنشأ بدلاً منها صالونات وملتقيات ثقافية تختلف بطابعها العام عن الصالونات التي عرفناها عبر الزمن ولو أن طابعها الأساسي كان الثقافة والأدب، لكن يبدو أن لكل عصر معطياته الثقافية والفكرية التي تختلف من عصر لآخر.
في يومنا هذا تحول شكل الصالون الأدبي وطبيعته إذ تشكلت صالونات أدبية افتراضية تعتمد على الفضاء الرقمي والبرامج الاجتماعية، و”السوشال ميديا” مثل الواتس آب والفيسبوك وغرف الدردشة المتنوعة يتم عبرها تداول الآراء والأفكار غيابياً، فالصالونات الأدبية ظاهرة صحية في المناخ المضطرب الذي أفرزته الحروب بكل ألوانها، ويبقى الأدب الحاجة العليا التي ترتقي بالإنسانية.
كذلك ظهرت في سورية بعض الأصوات الثقافية التي حاولت التعبير عن نفسها عبر ملتقيات ثقافية أعطتها مسميات متعددة، منها ما اقتصر على الشعر ومنها ما اشتمل على أنواع أدبية وفنية متعددة، واتخذوا من المطاعم والكافيتريات مكاناً للقائهم بجمهورهم الذي لبى نداءهم بنسبة لابأس بها.
تلك الملتقيات الخارجة عن إطار الوصاية الثقافية الرسمية أو أي جهة أخرى حاولت بجهود القائمين عليها إيصال رسالة ثقافية ومجتمعية تُعنى بمفاهيم جديدة للإلقاء والتلقي بعيداً عن المنابر الكلاسيكية، واستقطاب طاقات شابة جديدة في الوسط الثقافي السوري اليوم، ومع اتساع مساحة تلك الحالة حاول القائمون عليها تشكيل خطاب أو حالة جديدة تتم من خلالها مواجهة الخراب الثقافي والفكري والأدبي، لكن هذه الملتقيات رغم أهميتها لم تساهم بخلق خطاب ثقافي مختلف بل عملت على تحريك الأجواء ومحاولة إعادة المكانة التي تليق بألق الكلمة فقط، وبذات الوقت كانت فرصة لإيصال رسالة وكلمة في مكان ما، وقد تفاءلنا بهذه الملتقيات انطلاقاً من فكرة أن يكون هناك صدى آخر لشباب ينظّرون للثقافة برؤية مختلفة عن السائد، إضافة إلى أن الصوت الواحد لا يمكن أن ينتج إبداعاً، ولابد من تعدد الأصوات، من هنا كان التشجيع أن يكون ثمة ملتقيات أدبية ثقافية فاعلة في الحراك الثقافي السوري امتد ليشمل مشاركات عربية عبر وسائل التواصل، لكن هذه الملتقيات توقفت ولم تستطع الاستمرار لأسباب عدة ربما أهمها: عدم توفر التمويل المادي كون أغلبها كان يعتمد على تمويل شخصي من أعضاء الملتقى، وكذلك عدم وضع برنامج عمل ينظم عمل هذه الملتقيات من قبل القائمين عليها.