د. نزار بريك هنيدي.. يعيش ما يكتب ويكتب ما يجب أن يعاش
أمينة عباس
لم تكن الندوة التي عقدتن، مساء أمس، في المركز الثقافي أبو رمانة تحت عنوان “أدب نزار بريك هنيدي” كفيلة بالإلمام بمسيرته الإبداعية الغنية والطويلة، وهذا أمر طبيعي لتجربة زاخرة امتدت أكثر من 45 عاماً فكانت تحية صادقة من المشاركين لشاعر يعدّ من الشعراء الرواد الذين أسسوا للشعر السوري المعاصر، ولناقد له العديد من الكتب والدراسات الأدبية، ولطبيب جراح أخلص لمهنته كما أخلص لشغفه الإبداعي الذي كتب عنه كبار النقّاد العرب.
نجح الدكتور هنيدي في الجمع بين مهنة الطب وبين الأدب، وحول هذا الأمر يقول الدكتور عاطف البطرس: “عطفاً على ما قاله الطبيب والأديب الروسي أنطون تشيخوف: الطب زوجتي، والأدب عشيقتي، وعندما أملّ مع الأولى أهرب إلى الثانية، كان وما زال الدكتور هنيدي يردد: الطب مهنتي والأدب حياتي”، ويستطرد البطرس: “كثيراً ما قال لي أمنيتي أن أغلق العيادة وأحولها إلى مكتب ثقافي، ولأنني أتردد كثيراً إلى عيادته، فأنا منذ عرفته إما أن أجده يعاين مريضاً أو يحنو على كتاب أو يراجع مجلة أو يحضر للمشاركة في حفل تكريم لأحد أصدقائه، ورداً على سؤالي عن كيفية إيجاده للوقت الكافي للمتابعة والرصد والتفكير والإبداع يجيبني: مثلما تجد الوقت كي تتنفس، الأدب حياتي”.
وفرت علاقة البطرس الشخصية بهنيدي والتي تمتد لسنوات طويلة فرصة الكشف عن ذاته الإبداعيّة ومخزونه الإنساني والمعرفي: “لقد ذهبت بعيداً في ملامسة الجوهر الإنساني الإبداعي له كشاعر وناقد وطبيب جرّاح، فهو من الشعراء القلائل الذين عززوا موهبتهم بالجهد والمتابعة والمعاناة في الخلق الفني، ومطّلع على التراث العربي والعالمي، ومنفتح على الحداثة سلوكاً يومياً وثقافةً ومعرفة يعيشها من دون انفصام، بالإضافة إلى امتلاكه رؤية للعالم تستند إلى نظريّة فلسفيّة متماسكة منغمسة بتجربة روحية عميقة، أساسها النظرة العلمية إلى الكون والطبيعة والمجتمع والإنسان، ما كوّن لديه انسجاماً بين العملية الإبداعية والمرجعية الفكرية والممارسة الاجتماعية والأحكام النقدية التي تقوم على نظرية كليّة لا تغفل دور الأجزاء، ولا تقلل من أهميتها فيطلق أحكامه بعد مراجعة وتبصر، ذخيرته مرجعية معرفية موثوقة ووضوح في مكونات النص الذي يحاكمه، فلا يركن إلى المواصفات الجاهزة ولا يحاكم نوعاً أدبياً بمقاييس غيره أو عناصر لا يتصف بها، يعيد قراءة معارفه، متجرداً من طغيان تجربته في الكتابة عند إطلاق حكمه على تجارب الآخرين مع القدرة على الصمت عندما يكون أبلغ من الكلام”.
ويتابع البطرس: “يتميز نزار بريك هنيدي بعمق النظرة وسعة الأفق ورحابة الصدر فهو عين على الماضي والثانية في الحاضر وهما معاً نحو المستقبل، يدقق في المصطلح ويحاول دائماً أن يجد له جذوراً في موروثنا النقدي، يتصدى لأكثر المواضيع إشكاليّة كقصيدة النثر والقصة القصيرة والقصيدة المنمنة والشعر والفلسفة ووظيفة الشعر وغيرها، وبالإضافة إلى تجذره في التراث واطّلاعه على التجربة الشعريّة العربيّة فإنه متجاوز لها حيث تخطّى الكثير من ضوابطها وتقاليدها ممارساً لذة وحب التجريب في كل الأشكال الشعرية التي كتب فيها، مميزاً بين الجواهر والأعراض، بين الثابت والمتحول، منحازاً دائماً للحداثة، متصدياً لخصومها، إنه متصل بالماضي، “التراث”، ومنفصل عنه “الحداثة”، فنتعلم منه أنه لا يمكن للشاعر الحديث أن يكون منقطعاً عن جذوره التراثيّة، وفي الوقت نفسه لا بد من أن يكون منفتحاً على التجارب الشعرية والنقدية العالمية من دون أن يقع فريسة الإبهار، كما نتعلم منه عدم التعصب لشكل فني ضد آخر، لأن اللحظة الشعريّة يمكن أن تتجلى في أي شكل فني”، ولم يخف البطرس في حديثه أن اجتهادات هنيدي النظرية مع ممارسته التطبيقية تحتاج إلى دراسة وتأمل وكذلك تفاعل الطبيب الجرّاح مع الشاعر والناقد: “لكن لنا أن نتعلم منه الكثير ليس ممّا كتبه في كتب ومجموعات شعريّة، إنما في أشكال ممارسته للحياة بجدية ومسؤولية وترحال نحو المعرفة وصدق في التعامل واستقامة في السلوك، ونزاهة في الأحكام ومحبة للآخرين فهو يعيش ما يكتب ويكتب ما يجب أن يعاش، منغمس في تربة وطنه وهموم شعبه في تعالقها مع الهم الإنساني العام لاعتقاده بأن الشعر هو الأكثر فعالية في تحصين الروح والقدرة على صياغة الحق والجمال والحرية والعدالة والخير”.
وفي رده على مجمل ما طرحته الإعلامية شذى حمود التي استضافها مدير الندوة محمد الخضر لمحاورة الدكتور هنيدي يقول الأخير: “لا شك في أن أي مهنة يمارسها المبدع تؤثر على عطائه الإبداعي، وفي الوقت الذي يستغرب فيه بعضهم أن يكون المبدع طبيباً، أرى أن مهنة الطب هي الأقرب إلى الشعر وهذه المهنة توفر مادة غنية لعملي الإبداعي”، ويقول مجيباً على سؤالها عن كيفية إيجاده الوقت للمهنتين: “هذه نتائج طفولتي، فمنذ الصغر اهتممت بالكتاب والكتابة إلى جانب تفوقي في المجال العلمي، في طفولتي أصدرت مجلة وديواناً شعرياً في المرحلة الثانوية وحتى اليوم أوازن بين مهنتي وبين شغفي الإبداعي”، متطرقاً في كلامه حول حالة التطابق الفريدة بين ما يكتبه ويبدعه وما يعيشه إلى ضرورة ألا يكتب الشاعر إلا عن تجاربه الحياتية التي يعيشها ويشعر أنها جديرة بأن تتجسّد في قصيدة مع حرصه على أن يكون مخلصاً لصوته الخاص بنبرته وسماته وتلويناته من دون أن يستعير من الآخرين أصواتهم: “لا أحد يستطيع التعبير عن تجربته إلا إذا عبّر عنها بصوته الخاص، والكارثة التي نعيشها اليوم أن الشباب لا يعبرون عن تجاربهم الخاصة حيث نفتقد إلى العلاقة الحميمة بالذات”.
وعن سبب دراسته شعر جبران خليل جبران والمتنبي ونزار قباني يجيب: “هو سعي وراء إيجاد حل للغز خلود شعرهم، مع اقتناعي أن ذلك سيبقى لغزاً دائماً، لأننا لا نستطيع أن ندرك كهن العملية الشعرية السحرية بتحويل الكلام العادي إلى شعر، ومع هذا كنت حريصاً على التعريف بهؤلاء وكشف معالم تجربتهم الشعرية لتعريف الجيل الجديد بهم وبما كانوا يمتلكونه، بالإضافة إلى الاستفادة الشخصية لي للوقوف على مهارتهم في بناء نص شعري مختلف”، وتفسيراً لما قاله في أحد حواراته حول تراجع القصة القصيرة يبين: “شهد فن القصة القصيرة تراجعاً بعد غياب روادها في ظل ضعف اهتمام الشباب بهذا الفن وتوجههم نحو الشعر وقصيدة النثر بالتحديد لاعتقادهم أنها الأسهل، لذلك نفتقد اليوم للذين يهتمون بهذا الفن وأرى أنه من واجب الجميع وخاصةً المؤسسات المعنيّة إعادة إحياء هذا الفن خاصة أنه يتناسب مع طبيعة شباب اليوم”.
ويختتم هنيدي بالقول: “بين الشعر والقصة والرواية والنقد يبقى الشعر هو الأقرب إلى قلبي، أما الأجناس الأخرى فأكتبها على هامشه فأكتب النقد مثلاً لأغني تجربتي الشعرية”.
وأجمع الحاضرون على أهمية تجربة الدكتور نزار بريك هنيدي الإبداعية، حيث يقول صديقه الدكتور إحسان عز الدين: “أجد فيه امتداداً للزمن الجميل الذي نطلقه على الأدب، إنه شاعر ومفكر يمتلك إمكانيات أخلاقية ما زال محافظاً عليها، وهو من رواد الصف الأول شاعراً وناقداً”، وحول جمعه بين الطب والشعر يوضح الشاعر والقاص الدكتور نزار بني المرجة كطبيب: “الطب يداوي الجسد والشعر يداوي الروح، المسألة متكاملة وغير متناقضة، مهنة الطب أقرب إلى الشعر، وهنيدي قامة شعرية وثقافية، ونفتخر بمساهمته في المشهد الشعري السوري ودوره في وصول الشعر السوري إلى الساحات العربيّة الأخرى بحضوره الدائم في العديد من المهرجانات”.
وتحدث الأستاذ الأرقم الزعبي عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب العرب عن الجانب الإنساني لهنيدي قائلاً: “هو صديق الجميع، يحمل في حقيبته دواوين الشعر إلى جانب الأدوية التي لا يبخل بها على أحد، ونال اهتماماً أكاديمياً عبر رسائل كثيرة تناولت تجربته الشعرية وكتاباته ووجوده في اتّحاد الكتاب العرب لم يكن في يوم من الأيام عابراً، فهو مدافع ومشاكس قوي ووجوده دائماً إضافة لأي مكان يكون فيه”، ورأى الأديب رياض طبرة عضو المكتب التنفيذي في الاتحاد أن هنيدي ومن خلال تجربته هذه أراد قول إن الإنسان قادر على خلق شخصية تتجاوز كل الصّعوبات المحيطة فيه، وكشاعر لم يقصد الشعر ترفاً بل كان رسالة تحدي لكل من حوله ليقول: أنا ابن تجربتي وإحساسي، هو من الرعيل الأول واستمر مع الجيل الأقل إبهاراً، لكنه لم يتخلّ عن نزار الناقد والشاعر وكان دائماً جديداً في آرائه ومواقفه”.