روح باندونغ تسير بإندونيسيا إلى القمة العالمية
باوندنغ- علي اليوسف
عندما تطأ مدينة باندونغ تستحضرك روح المؤتمر الآسيوي-الإفريقي، المعروف باسم مؤتمر باندونغ، ويعود التاريخ بذكرياتك إلى يوم 18 نيسان 1955، حين تجمعت وللمرة الأولى دول الجنوب العالمي المعارضة للإمبريالية والاستعمار دفاعاً عن حقوقها السيادية.
في النصف الأول من القرن العشرين، استيقظت الشعوب المضطهدة في آسيا، وأصبحت دعوات الإندونيسيين للاستقلال تعلو يوماً بعد يوم، ففي عام 1907 تم بناء ما يعرف بمتحف الاتهام الإندونيسي في باندونغ، وقد استخدمته السلطات الاستعمارية الهولندية لمحاكمة الأشخاص المناهضين لهولندا، وهذا هو المكان الذي خضع فيه سوكارنو للمحاكمة، حيث نجح في الدفاع عن نفسه. وفي عام 1927، شكل سوكارنو وآخرون “الجمعية الوطنية الإندونيسية”، والتي أعيدت تسميتها فيما بعد تحت مسمى “الحزب الوطني الإندونيسي”، في محاولة لنيل الاستقلال الوطني. وبعد ذلك بعامين، اعتقلت السلطات الاستعمارية الهولندية سوكارنو بتهمة “إطلاق تمرد”.
أثناء المحاكمة، ألقى سوكارنو خطاب دفاع بعنوان “إندونيسيا توجه الاتهام”، حيث عدّد جرائم المستعمرين الهولنديين، ودعا إلى النضال العادل للشعب الإندونيسي من أجل الاستقلال الوطني. وقال سوكارنو في خطابه: “في الواقع، الشمس لا تشرق لأن الديك يصيح، ولكن الديك يصيح لأن الشمس تشرق! والحقيقة هي أنه في إندونيسيا أيضاً، ولدت الحركة الوطنية من رحم الإمبريالية”. وأصبح سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا بعد الاستقلال في عام 1945 وقاد الشعب الإندونيسي لهزيمة محاولة المستعمرين الهولنديين إعادة استعمار إندونيسيا من خلال الحرب.
في عام 1955، عُقد المؤتمر الآسيوي-الإفريقي، الذي أطلقه سوكارنو وآخرون في شارع آسيا-إفريقيا، على بعد كيلومتر واحد فقط من موقع المحاكمة، حيث كان هذا المؤتمر رمزاً لصحوة ووحدة شعوب آسيا وإفريقيا.
كان مؤتمر باندونغ أول اجتماع لدول العالم الثالث التي استقلت في منتصف القرن العشرين، والذي عُقد في الفترة من 18 إلى 24 نيسان عام 1955 في باندونغ بإندونيسيا وترأسه رئيس الوزراء الإندونيسي علي ستروميد جوجو، وشاركت فيه 29 دولة من أفريقيا وآسيا لمناقشة موضوع السلام، ودور دول العالم الثالث في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وعدم الاصطفاف مع أي منهما، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدان الأفريقية والآسيوية، وإنهاء الاستعمار. وكانت هذه الدول الـ29 المشاركة في مؤتمر باندونغ تضم أكثر من نصف سكان العالم في ذلك الوقت، وكان من بين أبرز قادة العالم الذين حضروا المؤتمر رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، ورئيس الوزراء البورمي يو نو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، ورئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي، فيما أرسلت معظم البلدان الأخرى ممثلين رفيعي المستوى. وفي عام 1961، أعلن عن تأسيس حركة “عدم الانحياز” هيئة منبثقة عن مؤتمر باندونغ، وذلك خلال مؤتمر نظم بالعاصمة اليوغوسلافية بلغراد.
إندونيسيا من منظور جيوسياسي
اليوم بعد كل هذه السنوات، والتغيرات العالمية التي أخلت بموازين القوى العالمية، لا تزال روح باندونغ حاضرة في وجدان إندونيسيا، حيث دفعت الانقسامات الكبيرة التي يشهدها العالم بمسألة الاضطرابات الجيوسياسية إلى صدارة أولويات رؤساء إندونيسيا، وهو ما حتّم على قادتها إيجاد السبل الناجحة للتعامل مع المخاطر الجيوسياسية بما يشمل كيفية تغيّر المشهد الجيوسياسي وتأثيراته على الجهات البارزة العالمية، وكيف يمكن الابتعاد عن أسلوب ردود الأفعال وتطوير المرونة اللازمة لتحقيق الازدهار وسط هذا النظام العالمي المنقسم.
في هذا الجو العاصف، تحظى إندونيسيا بأهمية جيوسياسية واقتصادية، فهي أكبر دول جنوب شرق آسيا، وأمامها فرصة للاستفادة من استمرار النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي لتقوية مكانتها الإقليمية والانطلاق بدبلوماسيتها إلى آفاق أوسع تتجاوز محيط منطقة “آسيان” إلى مناطق أخرى لتكون من الدول والقوى الصاعدة في آسيا.
ينطلق الحديث عن السياسة الإندونيسية من منظور جيوسياسي عالمي، إذ ضمن تلك الجغرافيا التي تفسّر الأهمية الجيوسياسية والجيو اقتصادية لإندونيسيا، يمكن تحديد هوية إندونيسيا بين الأمم، والمتمثلة بمبدأي “الاستقلالية والفاعلية” في تخاطبها مع الأمم الأخرى، ويمكن فهم ذلك في الخطاب الدبلوماسي الإندونيسي من خلال عدة مسوغات أساسية هي أن حماية أمنها القومي يستلزم علاقات حسنة مع دول الجوار حتى لا تكون منطقة صراع، وهذا ما يفسّر غياب مصطلح “الحلف” عن أدبيات الدبلوماسية الإندونيسية، فالسائد هو مصطلح “الشراكة”.
ومن هذا المنطلق، يرى كل من يزور إندونيسيا توسّع أفقها الدبلوماسي حسب خطة أو إستراتيجية “تجديدية” نحو دول الوطن العربي ودول آسيا الوسطى، وبعض دول إفريقيا، وأميركا اللاتينية للوصول إلى شراكات متعدّدة تصبّ في صالح نهضتها، وتسهم في تحقيق ما يدور في أدبيات دبلوماسيتها.
الوزن الإستراتيجي
الوزن الجيوإستراتيجي الكبير الذي تتمتع به إندونيسيا في منطقة جنوب شرق آسيا، جعلها على الدوام محل اهتمام وصراع على النفوذ بين القوى الكبرى منذ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي، وبقي هذا الصراع قائماً بمنسوب متفاوت على مدى العقود الستة الماضية.
ومع تصاعد الصراع الأميركي الصيني في بحر جنوب الصين، تجد إندونيسيا نفسها في قلب هذا الصراع بحكم موقعها الجغرافي وثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري، وتحكمها بعدد من أهم الممرات المائية في العالم، وهو ممر ملقه وغيره من الممرات القريبة منه. ويمر عبر مضيق ملقه حوالي ربع تجارة العالم من السلع (أكثر من 50 ألف سفينة تجارية سنويا)، وثلث إجمالي تجارة النفط الخام والمنتجات السائلة الأخرى وهو ما يجعله ثاني أهم ممر بحري لتجارة النفط العالمية بعد مضيق هرمز. كما أن حوالي 80% من صادرات الصين تمر عبر هذا المضيق وهو ما يعني أن مصيرها الاقتصادي يعتمد بشدة على استقرار الأوضاع فيه.
هذا المصير الاقتصادي المستقر كان له عدة عوامل تؤهل إندونيسيا لتصبح قوة عالمية عظمى، فتعداد سكانها يزيد على 300 مليون نسمة، بالإضافة إلى امتلاكها الموارد الطبيعية، مما ساعدها على تحقيق قفزة اقتصادية، بل أصبحنا نشهد دوراً سياسياً متنامياً على الساحة الدولية لا سيما من خلال رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان).
كان عام 2023 فرصة لإندونيسيا لتعزيز دورها كرئيس لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وتظهر قدرتها على القيادة الإقليمية، فقد لعبت إندونيسيا دوراً بارزاً في تخفيف التوترات وتعزيز التعاون الإقليمي. وفي عام 2022، كانت إندونيسيا رئيساً لمجموعة العشرين وتمكنت من تنظيم قمة بالي وإصدار بيان مشترك، مما أظهر مهاراتها الدبلوماسية في التعامل مع التحديات الدولية.
لقد كانت إحدى السمات المميزة لإندونيسيا هي تركيزها على النمو الاقتصادي، ولعل أبرز ما قامت به هو إستراتيجية النمو الوطني في إندونيسيا، أو (رؤية إندونيسيا 2045) التي تمت صياغتها في عام 2017، وتحدد العديد من الأهداف الاقتصادية لإندونيسيا كي تحققها بحلول عام 2045، الذي يصادف الذكرى المئوية لإندونيسيا كدولة مستقلة ذات سيادة. وتشمل هذه الأهداف تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 5% إلى 6% سنوياً، وجعل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 29 ألف دولار أمريكي في بلد يزيد تعداد سكانه على 300 مليون نسمة، لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم، والخروج من فخ الدخل المتوسط للانضمام إلى مصاف الدول المتقدمة ذات الدخل المرتفع.
لكن حتى الآن، تتجنب الحكومة الإندونيسية إلزام نفسها صراحة بتحقيق هدف التحول إلى قوة عظمى عالمية، لكن من المهم أن ندرك أن إندونيسيا هي قوة إقليمية بحكم الأمر الواقع، ولديها القدرة على أن تصبح قوة عالمية عظمى.