ثقافةصحيفة البعث

أيام السينما التونسية.. توثيق لعالم السحر ورمزية اجتماعية

ملده شويكاني

الذهول الذي شعرت فيه ياسمين عندما رأت “وليد” يطعن جدها بالسكين، ومن ثم يلحق بها حاملاً السكين الملطخة بالدم، ليقودها إلى النهاية، كان المشهد الذي يكشف اللغز الكبير في الفيلم المرعب “دشرة” الذي عُرض في اليوم الثاني من أيام السينما التونسية، التي أُقيمت في دار الأوبرا على مدى ثلاثة أيام، بالتعاون بين سفارة الجمهورية التونسية في دمشق مع المؤسسة العامة للسينما.
وقد اتضح من خلالها أن ثمة تقاطعات بين الأفلام، وإن اختلفت التفاصيل بهوية السينما التونسية التي استمدت موضوعاتها من الواقع، فغلبت عليها سمة السينما الواقعية البعيدة عن التجارية والربحية، وعلى الرغم من ذلك لم تحقق انتشاراً واسعاً بالعالم العربي مع أنها حصلت على جوائز دولية، بسبب اللهجة التونسية المحكية التي تمتزج فيها بعض المفردات الشعبية ما يجعل المشاهد يجد صعوبة بالاندماج بمتعة الحوار، وتبقى الصورة البصرية بمؤثراتها هي العنصر الأول.
وهذا ما بدا في فيلم “دشرة- 2018” بتوقيع المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق والذي كتب السيناريو أيضاً، ولعل اشتغال ابن الفنان لطفي بوشناق خريج المدرسة العليا للدراسات السينمائية في كندا على إخراج العديد من الأفلام القصيرة والوثائقية جعله يقدم على توثيق حكاية هذا الفيلم الأشبه باللغز، الذي اكتشفت بعض أسراره وأخرى مازال يكتنفها الغموض، فصنف بأنه أول فيلم رعب في تونس وحاز على جوائز، منها في مهرجان البندقية.
وقد يستحضر المشاهد صوراً من سلسلة أفلام مصاصي الدماء، لكنه أكثر رعباً لأنه لا يعتمد على الخيال، إنما على حكاية حقيقية وقعت منذ عشرين عاماً مع “منجية” الفتاة التي وجدوها ملقاة على قارعة الطريق، مطعونة بالسكين برقبتها وهي عارية وتغرق بدمائها، لتتكرر الحادثة مع “ياسمين” بعد عشرين عاماً وربما في زمن لاحق.
يتناول الفيلم السحر الذي اشتُهر به المغاربة، لكن لا يخطر على بال أحد أن هناك قرية بأكملها تعمل بالسحر والشعوذة، تقع في منطقة معزولة نائية بعد الغابات الكثيفة بالأشجار يهيمن عليها الإحساس بالخوف تدعى “دشرة”. يدخل المخرج المشاهد بقرابة الساعتين إلى عالم مخيف مسكون بالأشباح المتكررة على صورة امرأة ترتدي الأسود، وفي الوقت ذاته يطرح أسئلة تتوالد من اللغز الكبير، فما علاقة “منجية” بـ”ياسمين”؟ ولماذا كانت “ياسمين” ترى شبح المرأة بثياب سوداء في النوم؟ ولماذا أخفى جد “ياسمين” أنه من أهل “دشرة”؟ وما سبب إصرار “وليد” على الذهاب إلى هذه القرية؟ ولماذا نكر مدير مشفى المجانين وجود “منجية” المخيفة التي تعمل بالسحر والشعوذة؟
تبدأ القصة من علاقة صداقة وزمالة تجمع بين ثلاثة زملاء في قسم الصحافة يكلفون بإجراء تحقيق، “ياسمين” التي تعيش مع جدها- ياسمين ديماسي، و”وليد- عزيز جبالي”، و”بلال ـ بلال سلاطينة.. تقتنع “ياسمين” بالفكرة التي اقترحها “وليد”، لكن عندما ينكر مدير مشفى المجانين وجود “منجية”، يدخلونها سراً ويصلون إلى “منجية” بمشهد مخيف، إذ تنقض على “ياسمين”.
الخارطة التي حددت عليها “منجية” المكان تكون بداية اللغز أو بالأحرى بداية الموت.
تتصاعد الأحداث بأجواء مثيرة ومخيفة حينما يتركون السيارة ويتوغلون بالغابة، فتظهر طفلة صغيرة من بعيد تقودهم إلى مشارف القرية.
يطيل المخرج المشاهد ويركز على الغابة التي سيوظّفها في المشاهد الأكثر رعباً ودموية.
يخيم الليل، فيرضخ الزملاء الثلاثة للنوم في القرية بعد إصرار الرجل الذي استضافهم، وفي مشهد العشاء يزداد الرعب، عندما تجلس النسوة بثيابهن السوداء ويوضع الطعام في صحون كبيرة مليئة باللحم، تشعر “ياسمين” بشيء غريب، وكذلك “بلال”، لكن يقنعهما “وليد” بأن الطعام لذيذ، وينوه المخرج بشكل غير مباشر إلى شيء خفي يعرف في المشاهد الأخيرة.
تتعرض “ياسمين” لمخاوف كبيرة مثل المصباح الذي يطفأ ويضيء والستارة البيضاء التي تخفي شبحاً، لتكتمل الصورة بالغابة، عندما تعترضها إحدى النساء وتنبهها بضرورة الهرب وتعطيها دفتراً صغيراً.
تكتشف “ياسمين” سرّ “منجية”، وتحاول الهرب لكنها تصدم برؤية “بلال” مطعوناً بالسكين.
الفاصل بالفيلم، هو اكتشاف الجد أن “ياسمين” في القرية فيلحق بها، وفي المشهد الذي يدخل فيه الغابة يطلق المخرج رسالته عندما يردد آيات من القرآن الكريم فتركض النساء بثيابهن السوداء مذعورات.
في المشاهد الأخيرة يطعن “وليد” الجد بالسكين، ليكشف المخرج بأن “وليد” من أهل “دشرة” وهو المخطط لاستجرار “ياسمين” و”بلال”، ويحكم قبضته على “ياسمين” ويقودها إلى القرية.
ويترك المخرج النهاية مفتوحة بمشهد مرعب بتقييد “ياسمين” وحولها السكاكين؟ ليشعر المشاهد بأنه في حالة ذهول.
في الفيلم أشياء كثيرة تدخل في خطوط الغموض وتبقى لغزاً.
وفي اليوم الثالث من التّظاهرة، عُرض فيلم “قبل ما يفوت الفوت” ويعني “قبل فوات الأوان”، إخراج مجدي لخضر الذي شارك بكتابة السيناريو أيضاً، وهو خريج المعهد العالي لفنون الوسائط المتعددة بمنوبة، ومتخصص بالكتابة والإخراج، بالإضافة إلى التمثيل، ويتطرق في فيلمه إلى الواقع المعاش في تونس والبحث عن الخلاص برمزية اجتماعية من خلال النفق الذي كان يحفره الأب بطل الفيلم، ليكون السبيل الوحيد لنجاة العائلة.
ومن خلال هذا الفيلم، اطلع المشاهد على نوع آخر من السينما التونسية ضمن إطار الواقعية والرمزية، إذ ينتمي الفيلم إلى إطار الأفلام الاجتماعية البعيد عن أحداث الرعب أو الإبهار البصري، فتدور أحداثه في قبو قديم آيل للسقوط، يرتبط به البطل- الأب لسبب مجهول، يكشف عنه في نهاية الفيلم، عندما يعترف بأنه يبحث عن الكنز المدفون الذي أخبره والده عنه.
يمثل رؤوف بن عمر دور الأب، ويكون أنموذجاً للطبقة الأقل من المتوسطة وتظهر على ملامحه معاناة الحياة، يعمل خياطاً، ويعيش مع زوجته “بايا- ربيعة بن عبد الله، وابنه “سيف ـ مجد مستورة”، وابنته “هاجر ـ سلمى المحجوبي.
تدور أحداث الفيلم في ليلة واحدة تفصل بين الموت والحياة، عندما يتهاوى قسم من المنزل وتواجه الأسرة مصيرها وهي بين الأنقاض، ولا تجد إلا حفرة طريقاً للنجاة.
يعتمد المخرج على التقشف البصري من حيث الإضاءة وموجودات المنزل القديم وظهور الممثلين من دون مكياج، وتدور مشاحنات بين أفراد الأسرة برمزية إلى التيارات والاختلافات الموجودة بالمجتمع.
تتصاعد الأحداث في المشاهد الأخيرة بين اشتعال النار والدخان ورائحة الغبار وضيق التنفس الذي يشتد على الأم المصابة بالربو إيماءة إلى صعوبات الحياة.
أيام السينما التونسية كانت فرصة للتواصل الثقافي والسينمائي لم تخلُ من تقاطعات إنسانية، ولاسيما في البحث عن الكنز داخل المنزل الموجود في تراثنا أيضاً.