دراساتصحيفة البعث

لماذا جباليا؟

عناية ناصر

ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجازر لفتت انتباه العالم كله في جباليا ومخيم اللاجئين بالمدينة، وتساءل الجميع: ما الذي يجعل هذه البقعة الصغيرة عرضة لهذا الدمار المستمر، حيث تشهد هذه المنطقة الصغيرة، التي لا تتجاوز مساحتها 1.4 كيلومتر مربع، والتي تسجل أعلى كثافة سكانية في العالم، فهي موطن لـ 116,000 شخص في أكبر مخيم للاجئين في فلسطين.

مع بداية العدوان الحالي، صبّ جيش الاحتلال جام غضبه على مخيم جباليا، وارتكب أربعاً من أعنف وأفظع المجازر حتى الآن، وأعلن لاحقاً النصر على جباليا وبدأ بالتوجّه جنوباً؛ وبسبب صمود جباليا، قصف جيش الاحتلال أحياءها بالقنابل الصامتة، ما أدّى إلى مقتل المئات في كل ضربة، واستمرّ في تجويع الفلسطينيين في الشمال، والآن تحاول قوات الاحتلال اجتياحه ثانية، ربما بهدف تدمير المخيم.

ما يحدث هو تكرار وتكثيف لما حدث منذ فترة طويلة، حيث كان مخيم جباليا في عام 1967 المكان الذي بدأت فيه أول مقاومة ضد الاحتلال، وجنّ جنون الاحتلال حينها، وتساءل كيف تجرّأ مقاتل من أجل الحرية على إطلاق النار على طائرة هليكوبتر للاحتلال الذي أرسل شاحنات محمّلة بالجنود ونفّذ إعداماتٍ ميدانية وأسقط قنابل النابالم. وحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف عدد الشهداء في تلك الجريمة، حيث تم مسح عائلات بأكملها من السجل المدني.

اشتعلت شرارة الانتفاضة الأولى في عام 1987 من جباليا، وبعد ذلك، أصبح الجميع يطلق عليه اسم “معسكر الثورة”، وكان من بين مناضليها الشجعان حاتم السيسي، أول شهيد للانتفاضة التي امتدّت من عام 1987 حتى اتفاقات أوسلو عام 1993، حيث كانت دماؤه العامل المحفز لانتشار الانتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

في عهد مجرم الحرب أرييل شارون، دمّرت دبابات وطائرات الاحتلال مخيم جباليا عام 2003، وكرّر المجرم نفسه الهجوم عام 2004، ورغم كل محاولاته، إلا أنه فشل في إضعاف المقاومة، ما اضطره إلى الانسحاب من قطاع غزة بعد هزيمته عام 2005.

واليوم، بعد 20 عاماً، يعود خليفته نتنياهو لمهاجمة مخيم جباليا في اعتداءات متعدّدة، ويبدو أن نتنياهو اليائس لم يتعلم شيئاً من التاريخ. إن سياسة “يموت الأهل وينسى الأبناء” لن تنجح مع الفلسطينيين الذين لا ينسون، بل يتبعون المسار نفسه الذي اتبعه آباؤهم. إنهم يناشدون العالم بكل اللغات، مطالبين بحياة كريمة ومستقبل لائق لأبنائهم، لكن الاحتلال يمارس الإبادة الجماعية ضدهم.

يتناقش قادة قوات الاحتلال علناً وسراً، ويعقدون المؤتمرات طوال الوقت، وفي أذهانهم سؤال واحد فقط: “كيف نمحو مخيم جباليا من الخريطة؟”. هل نلقي عليه قنبلة نووية، وكأن 40 ألف طن من المتفجّرات لم تروِ عطشهم للموت، وكأنهم يسألون: كم طناً من القنابل يجب أن نسقط عليهم لكي يموتوا؟.

على مدار سبعة أشهر، قام الاحتلال بتجويع سكان شمال غزة، وركّز على مخيم جباليا. وربما كانوا يأملون أن يموت الناس من الجوع أو يهربوا، ما يسهّل عليهم إنجاز مهمّتهم المتمثلة في تدمير المنطقة بالكامل وتسويتها بالأرض كما فعلوا في بيت حانون وبيت لاهيا وخان يونس، لكن مخيم جباليا بقي غير قابل للكسر، صامداً رغم كثرة عدد الشهداء.

وكان هذا الصمود نقمة، لتعود دبابات الاحتلال الإسرائيلي إلى جباليا وكأن الحرب قد بدأت من جديد. القنابل تسقط من السماء، تسقط قنابل زنة 1000 رطل و2000 رطل من الطائرات الحربية بهدف قتل المزيد من المدنيين الأبرياء داخل المنازل. ذنبهم الوحيد أنهم قالوا: “لن نترك بيوتنا، لن نهرب”. وعلى الرغم من تدمير الجيش المسعور حتى الآن نحو 70% من معالم المخيم، واختفت أبرز مواقع المدينة، ظل سكان مخيم جباليا صامدين.

إن أولئك الذين بقوا في جباليا يعرفون ما هو النزوح، فقد عاشوا كنازحين، وهم يعرفون أن ذلك يعني المنفى الدائم، وهم يعرفون أن النزوح الآخر يعني مغادرة فلسطين والانتقال إلى سيناء، وهو ما يعني نهاية قضيتنا إلى الأبد. إنهم يفهمون أكاذيب الاحتلال. ورغم أنهم يموتون من الجوع والعطش، لكنهم رغم كل ذلك لن يغادروا أرضهم.

الكل يعلم أنه لولا صمود مخيم جباليا وصبر أهله وأهل غزة لتحقّقت أهداف نتنياهو في تهجيرهم إلى سيناء. ولعل هذا هو سبب غضب نتنياهو وقواته من جباليا وسكانها. ولكن كما أعادوا بناء مخيم جباليا بعد المجزرة الأولى في عام 1967، والانتفاضة الأولى في عام 1987، والمجزرة الثانية في عام 2003، والمجزرة الثالثة في عام 2004، فإن الفلسطينيين سوف يعيدون بناء المخيم مرة أخرى بعد المجازر الحالية.