الدوافع المعلنة وغير المعلنة في خطه بايدن
ريا خوري
قدَّم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مجلس الأمن الدولي خطة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد اعتماد قرار بهذا الشأن في نيويورك. وأيّد مجلس الأمن الدولي خطة الرئيس الأمريكي حيث صوَّتت أربع عشرة دولة لمصلحتها، في حين امتنعت روسيا الاتحادية عن التصويت.
وهذه هي المرة الـ 11 التي يصوّت فيها مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار منذ بدء الحرب الدامية في قطاع غزة، وتم تبنّي أربع قرارات منها فقط. لكن خطة بايدن ستبقى محل اهتمام المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين ومحل اهتمام وتحليل للدوافع الظاهرية والخفية وراء إعلانها من الجهات المهتمة بالسياسات الخارجية لرؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، والبحث عن الدوافع غير المعلنة على وجه الخصوص وراء تغيير بايدن وإدارته موقفهم من تعويق مساعي وقف إطلاق النار، باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ثم الإعلان المفاجئ عن خطته لوقف الحرب نهائياً، وفوراً.
وقد تمت تسمية الوثيقة (بالمبادئ الأساسية للاتفاق على تبادل المحتجزين والأسرى وعودة الهدوء المستدام). ويهدف سياق العمل وفقاً لتلك الوثيقة إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الصهاينة الموجودين في قطاع غزة من مدنيين وجنود سواء أكانوا على قيد الحياة أم أمواتاً، وبغض النظر عن تاريخ أو فترة أسرهم، وذلك مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يتفق عليه، والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقِّق وقفاً دائماً لإطلاق النار، وانسحاباً لقوات العدو الصهيوني من قطاع غزة، وإعادة إعمار غزة ضمن خطة مدروسة، وفتح المعابر الحدودية والسماح بحركة السكان ونقل البضائع دون عوائق.
وتمتد الوثيقة على مراحل ثلاث كل منها ستة أسابيع بما يعادل اثنين وأربعين يوماً، وتتضمّن جدولاً زمنياً لإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة من مدنيين وعسكريين أحياء وأموات بغض النظر عن تاريخ أسرهم، مقابل الإفراج عن عدد يُتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين، والعودة إلى ما وصفته بالهدوء المستدام بما يحقق وقفاً دائماً لإطلاق النار، حيث تمتد المرحلة الأولى اثنين وأربعين يوماً تنسحب خلالها قوات العدو شرقاً لتتمركز على الحدود في جميع مناطق قطاع غزة، وما حولها، بما في ذلك وادي غزة (دوار الكويت ومحور نتساريم)، وتبدأ من شارع الرشيد إلى شارع صلاح الدين، ووقف مؤقت للطيران (العسكري والاستطلاع) الصهيوني في قطاع غزة يومياً لمدة عشر ساعات، ولمدة اثنتي عشرة ساعة في أيام تبادل الأسرى، وتحديداً بعد إطلاق المقاومة سبعة من المحتجزات الإناث. ابتداء سيسمح بدخول كميات مكثفة ومناسبة من المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة والوقود بمعدل ستمئة شاحنة يومياً بينها خمسون شاحنة وقود، ومن ضمنها ثلاثمائة شاحنة للشمال بما في ذلك الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء والمعدات المدنية اللازمة لإزالة الركام والتجارة، وإعادة تأهيل وتشغيل المستشفيات والمراكز الطبية والمخابز في جميع مناطق قطاع غزة، حيث يتم تسهيل إدخال المستلزمات والمتطلبات اللازمة لإيواء النازحين داخلياً ممن فقدوا بيوتهم خلال الحرب بعدد لا يقل عن ستين ألف بيت مؤقت “كرافان” ومئتي ألف خيمة جماعية، ويتم الشروع في عمل الترتيبات والخطط لإعادة الإعمار الشاملة للبيوت والمنشآت المدنية والبنية التحتية المدنية التي تم تدميرها خلال الحرب المدمّرة، تحت إشراف عدد من الدول والمنظمات بما في ذلك قطر ومصر والأمم المتحدة.
لقد انشغل جميع المهتمين والمتابعين للصراع في منطقة الشرق الأوسط بموقف بايدن المفاجئ، حيث تم التركيز بشكلٍ مكثّف على الدوافع غير المعلنة عن تغيير موقفه، وإن كان المتفق عليه بين خبراء السياسة الأمريكية، أن هناك عنصرين أساسيين يمثلان دافعاً رئيسياً وقوياً وراء موقف أي رئيس من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من الانحياز للكيان الصهيوني، أولهما التمويل المالي والدعم القوي للحملة الانتخابية للرئيس، وقوة الضغط اليهودي لمنظمة إيباك AIPAC، التي ترصد ملايين الدولارات للمرشح مقابل انحيازه المطلق للكيان الصهيوني.
وتلك حقيقة لا جدال فيها، وسبق للرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر أن شرحها بوضوح تام، في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” حيث قال : “إنَّ من يملك من التمويل والدعم المالي والإعلامي أكثر من غيره من المرشحين هو الذي يدخل رئيساً في البيت الأبيض”. وهذا الأمر يُجمع عليه عدد كبير من المرشحين الرئاسيين في الولايات المتحدة فقد شرحت تلك الفكرة إليزابيث دول المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري، في تسعينيات القرن الماضي، بعد انسحابها المفاجئ من السباق الانتخابي، حينما قالت إنَّ من ينافسونها لديهم وفرة من التمويل المالي والدعم الإعلامي والسياسي ليست متاحة لها، ثم إنَّ الأكثر تمويلاً وقوةً هو من يفوز بالرئاسة، وسبق أن أعلن معهد بروكينغز أنَّ من الرؤساء من كان في أثناء ترشحه رافضاً لسياسة الكيان الصهيوني، أما حين وجد أن مصادر تمويل حملته الانتخابية ليست كافيهة للفوز والوصول إلى البيت الأبيض فإنه غيّر من سياسته.
في هذه المرحلة الخاصة والمهمة من تاريخ الصراع ظهرت مواقف جديدة دفعت إلى إضاقة عنصر جديد إلى حسابات الرؤساء في تقييم فرصهم في السباق الانتخابي والوصول إلى البيت الأبيض لم يكن له دور من قبل، فبعد أن كان الرأي العام في أغلبه مؤيّداً بشكلٍ كامل وكلي للكيان الصهيوني في نزاعه معنا نحن العرب، بتأثير ضغوط الدعاية اليهودية للصهيونية المكثفة والمنتشرة في معظم الأصقاع، فإنَّ الانتفاضة الجماعية للرأي العام الأمريكي، وخاصة في الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث والدراسات، واستقالات مسؤولين كبار في إدارة الرئيس جو بايدن، رفضاً لتحيّزه إلى الكيان الصهيوني في قطاع غزة، وانضمام قوة يهودية أمريكية إلى كل هؤلاء، فانَّ ذلك وضع إدارة بايدن في مأزق تاريخي كبير في وقت الإعداد لانتخابات وشيكة للرئاسة في شهر تشرين الثاني القادم، التي توحي المؤشرات بأنَّ بايدن سوف يخسرها حسب تلك السياقات. لقد بات البيت الأبيض في مواجهة اتهامات قاسية حول ارتفاع أعداد الشهداء في قطاع غزة إلى سبعة وثلاثين ألفاً، وإن عدداً كبيراً من المسؤولين الأمريكيين في حالة غضب من طريقه تعامل بايدن مع النزاع بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، وتزايد قلق قادة الكيان من إمكانية الاستغناء عن الدعم العسكري الأمريكي، الذي يعدّ من القواعد الرئيسية (للأمن القومي) منذ قيام دولة الكيان الغاصب.