تناقضات هيكلية في العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا
عناية ناصر
قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بأول زيارة دولة له إلى فرنسا في الفترة من 5 إلى 9 حزيران الجاري، رغم الخلافات المختلفة بين البلدين حول قضايا مثل التجارة الرقمية والطيران، وتغير المناخ، والاتفاق النووي الإيراني، مما تسبب في تدهور العلاقات الثنائية لتصل إلى الحضيض. وعلى الرغم من التقارب بين البلدين إلى حد ما بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أنه لا تزال هناك العديد من القضايا التي لم يتم حلها بين الولايات المتحدة وفرنسا.
تزامنت زيارة بايدن رفيعة المستوى مع الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي، ومع انتخابات البرلمان الأوروبي التي تجرى مرة كل خمس سنوات، وتغيير القيادة في الاتحاد الأوروبي.
أما في العمق فقد حققت زيارة بايدن لفرنسا بعض المكاسب، حيث أصدرت الولايات المتحدة وفرنسا خارطة طريق للتعاون تغطي مختلف القضايا الدولية مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني وتغير المناخ، من بين أمور أخرى. واقترحا التعاون الثنائي في مجالات تشمل الطاقة النووية المدنية، والفضاء، والنقل، والأمن الغذائي، والثقافة، والرياضة، لمواصلة اتجاه الاسترخاء والتقارب في العلاقات الفرنسية الأمريكية في الآونة الأخيرة.
ومع ذلك، فإن الاتفاق الشامل المكون من 66 نقطة يتعلق أكثر بتأكيد الإجماع السابق وتعزيز نوايا التعاون، مع عدم ظهور سوى القليل من النتائج الفعلية. فوفقاً لوسائل إعلام فرنسية لم تعلن زيارة الدولة التي قام بها بايدن عن أي أمور موضوعية، وكان هدفها الأهم هو إظهار علاقات الصداقة بين البلدين. أما عن القضايا المتعلقة بالصين، فلم تتوصل الولايات المتحدة وفرنسا إلى المزيد من الإجماع والتنسيق الجديد، واكتفتا بالإشارة إلى قضية “القدرة الفائضة”.
يبدو أن زيارة بايدن رفيعة المستوى إلى فرنسا لم تكن فعّالة، حيث يكمن السبب في التناقضات البنيوية في الجانبين الاقتصادي والإستراتيجية بين الولايات المتحدة وفرنسا، والتي طالما أعاقت واشنطن عن تقريب باريس.
من الناحية الاقتصادية، كان من الصعب في الأعوام الأخيرة التوفيق بين النهج الأحادي الذي تبنته الولايات المتحدة، وعرقلة الهيمنة للاقتصاد والتجارة الدولية، والسلطة القضائية الطويلة الأمد المثيرة للجدال، وبين تركيز فرنسا والاتحاد الأوروبي على التعددية والاستقلال الاستراتيجي. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، والذي يقدم إعانات دعم ضخمة لجذب الشركات الأوروبية، مما يؤثر على فرنسا والتحول الأخضر في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، مع اقتراب الموجة الجديدة من الابتكار التكنولوجي، تظل الصراعات بين الولايات المتحدة وفرنسا في المجالات الرقمية وغيرها من المجالات دون حل، ولم يتبدد ظل الاحتكاك التجاري مع وجود إدارة بايدن في السلطة.
ومن الناحية الإستراتيجية، كانت فرنسا غير راغبة منذ فترة طويلة في الاضطلاع بدور البيدق في يد الولايات المتحدة، ساعية إلى ممارسة دبلوماسية مستقلة. وفي الأعوام الأخيرة رفعت شعار “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”، بل وحاولت تعزيز التكامل الدفاعي الأوروبي، وهو أمر بعيد كل البعد عن النوايا الإستراتيجية للولايات المتحدة.
وفي الوقت الحالي، مع تشكيل المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، فإن فرنسا، تحت قيادة ماكرون، غير راغبة في أن تصبح ساحة معركة لألعاب القوى العظمى وتستمر في إتباع ممارسة دبلوماسية تسعى إلى تحقيق التوازن. وخلال زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى فرنسا خلال شهر أيار الماضي، أظهرت فرنسا أيضاً استقلالاً واضحاً في سياستها تجاه الصين، حيث توصلت إلى أربعة بيانات مشتركة وسلسلة من اتفاقيات التعاون.
على هذه الخلفية، يفسر البعض زيارة بايدن إلى فرنسا على أنها محاولة لموازنة نفوذ الصين في أوروبا وكسب فرنسا. ومع ذلك، ومن الناحية الموضوعية، من غير المرجح أن تقفز فرنسا بسهولة إلى عربة الولايات المتحدة المناهضة للصين.
إن تقليد الدبلوماسية المستقلة، والطموحات باعتبارها قوة اقتصادية وتكنولوجية كبرى، والموقع القيادي للمحور الفرنسي الألماني في الاتحاد الأوروبي، كل هذا يمنع فرنسا من “الانحناء أمام الولايات المتحدة”. بالإضافة إلى أن إدارة بايدن غير قادرة على إعطاء فرنسا ما تريد، بالنظر إلى الواقع الحالي المتمثل في المنافسة الصناعية الشرسة بشكل متزايد بين البلدين.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإن التهديد بالانعزالية الناجم عن عودة ترامب المحتملة لا يشكل تحدياً لالتزامات الولايات المتحدة الأمنية تجاه أوروبا، بما في ذلك فرنسا فحسب، بل يعيد أيضاً ظلال الصراع الاقتصادي والتجاري إلى أوروبا.
إن الصعود المستمر للقوى السياسية اليمينية المتطرفة في فرنسا والمقامرة السياسية التي يقوم بها ماكرون بحل الجمعية الوطنية بعد الهزيمة في انتخابات البرلمان الأوروبي تدفع الولايات المتحدة وفرنسا إلى اتخاذ موقف الانتظار والترقب الحذر تجاه بعضهما البعض. كما ولا يزال مستقبل الحكم الذاتي الاستراتيجي في فرنسا وأوروبا مجهولاً. ومن ناحية أخرى فإن التباعد والتعاون بين الولايات المتحدة من جهة وفرنسا وأوروبا من جهة أخرى في علاقاتهما مع الصين قد يؤدي حتماً إلى لعبة شد الحبل طويلة الأمد بين الجانبين.