ثقافةصحيفة البعث

“وجوه حجر النرد”  للروائي حسن كريم عاتي

علي فرحان الدندح

في مقهى الروضة الدمشقي وعلى مقربة من كرسي الخيزران لبوصلة الوجع العراقي في المنفى لبيد رشيد المعروف طيلة الأربعة عقود بـ”أبو حالوب” يتخذ الكاتب والروائي العراقي عبد الرضا الحميد مجلساً له في كل زيارة لدمشق من دون انقطاع عن الشام التي اتخذ منها سكناً لروحه وبرداً لبراكينه ومفرداته التي أرهقت قلمه وجسده على حد تعبيره.

هنا في البرلمان الثقافي وسط العاصمة دمشق روضة ومقهى ووجوه وجموع وضحكات وتأملات وسحب من الدخان تتخلله حالة من البهجة تسيطر على لاعبي “طاولة الزهر” أو “الطاولة” وهم يلقون بزوجي النرد الصغيرين على الطاولة الخشبية المزخرفة بالنقوش والأشكال الهندسية، ثم يقرأون نصيبهم من الأرقام التي ساقها القدر، لكن ليس بلغتهم بل بلغة اللعبة نفسها.

ما بين الفرح بالنصر الممزوج بافتعال مهارة الرمي أو لعن الحظ العاثر، يقوم المتنافسان من دون اعتراف أحدهما للآخر بالمهارة، فالزهر هو اللاعب الحقيقي الذي يقرّر…”دو سي”، “دو بيش” “دو شيش”… مع العبارة الأخيرة ترتفع صيحة الفرح، فهي أعلى رقم يمكن للنرد أن يجود به على اللاعب، حين يمنحه 6 لوجه كل نرد. أراقب هذه الانفعالات وهذه الصيحات بصمت بعيد لتأتي كلمة “أبو فرات” بهدوئه الرتيب: “ها وين رحت”.. أضحك.. ويبتسم وأسأله عن جديد “دار الصحيفة العربية” من كتب ودراسات وروايات وإصدارات جديدة لتكون الهدية التي أثق في اختيارات كتابها من قبل هذا الجنوبي المتدمشق.

“وجوه حجر النرد” للكاتب والروائي حسن كريم عاتي الذي يحمل إجازة في القانون من جامعة بغداد يكتب القصة والرواية والنقد.. أمسكت بالكتاب متأملاً العنوان والغلاف.. العمل سرد والكاتب رجل قانون ترى.. كيف ستكون اللغة وحيثيات ومجريات النص السردي لكاتب وناقد ورجل قانون له كتابات ودراسات قانونية في الصحف والمجلات العراقية بما يخص الواقع الراهن الذي تمر به البلاد.

عموماً لدي قناعة بأن القانون والإبداع سبيلان من سبل العدالة، فلا يمكن تناول أي جريمة على وجه هذه الأرض من دون معرفة أبعادها التاريخية والاجتماعية السياسية والاقتصادية وتداعياتها على الناتج الأدبي، فالأدب يخدم القانون متى ما وظف الأدب من دون إفراط أو تفريط، بل إن كتابة وقائع الدعوى والمذكرات في أثناء المرافعات بحس أدبي مقترنة برصانة قانونية ذات جودة عالية تمنح السلطة القضائية صورة ذهنية واضحة عما حدث من وقائع، وحتماً سيوثر ذلك على حيثيات وقرارات الأحكام الصادرة من قبل المحكمة.

إن عمل واختصاص الكاتب حسن كريم عاتي في حقول القانون جعله يتمتع بثراء فكري مميز، وكانت النتيجة أنه قدم وأسهم من خلال مدونته السردية الجديدة “وجوه حجر النرد” عملاً إبداعياً خرج به عما هو مألوف، سواء من الناحية القانونية أم الأدبية، من خلال الاعتماد على وقائع تاريخية سياسية لما قبل عام 2003، وما بعدها بسنوات، مع الإسقاط التاريخي على فضاء المكان والحدث.

لنسأل كما يقول الكاتب في “سفر النرد”:

_ هل تتنوع شهاداتنا تبعاً لتنوع مواضيعها؟.

_ وهل نمتلك شهادات متناقضة عن واقعة واحدة؟.

_ وهل نصلح أن يُعتدَ بشهاداتنا عن زمن لم يقضِ علينا بعد؟.

_ وهل نمتلك الشجاعة أو الفرصة أو المغامرة أو السذاجة، لنقول كل شيءٍ دفعة واحدة، وعن كل شيءٍ؟ بحيث لن نبقي لغيرنا ما يقوله!.

_ وهل يمكن لنا الوصول إلى ما نظنه حقاً وصدقاً وصواباً في شهادة العيان أو الشهادة على السماع ؟.

يكون الرد: “تساؤلات ستة تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادةً. الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسودٍ فاحمٍ، وفي لحظة ذهول الأسئلة نفترض وقوف الحجر حائراً على زاوية منه، قبل أن يمسه قلق الجواب ويستريح على واحد من وجوهه ليبرز رقم التساؤل”.

وبعد كل ما تقدم أقول الرواية كغيرها من أنواع الأدب كان لها الدور الأكبر في سرد حكايا وقصص الحروب والجبهات، وهنا لا نقصد الرواية التي كان يكتبها الأدباء المأجورون، وكان هدفهم واحداً وهو بث العزيمة في نفوس أنهكتها الحروب وهدها الشوق والحرمان، ولا أولئك الأدباء الذين كان ديدنهم تمجيد الرصاص والنار، وكأن الحرب ضرورة من ضرورات الحياة وعلى هذا الشعب أن يخوضها رغماً عن أنفه.

ففي الوقت الذي كنا نجد فيه مثل هكذا أدباء وأعمال تسمى “أدبية”، نرى أدباء على نقيض كبير من هولاء، أدباء طالما كتبوا عن معاناة الحروب ومآسيها وما يؤول إليه مصير من اشتركوا فيها، أدباء بينوا لنا عمق الآلام الإنسانية ومدى بشاعة القرارات التي تتخذ بسرعة الضوء وبحماسة منقطعة النظير لنحصل على نتيجة معروفة سلفاً وهي ضحايا بالملايين ما بين قتيل وفقيد ومعاق.

الرواية العراقية كغيرها تناولت موضوع الحرب والحصار من جوانب متعددة، ومهما اختلفت موضوعاتها، لكنها تتفق على أن الحرب ستبقى المأساة الأشد إيلاماً على الإنسان العراقي، والتي لا يمكن أن يمحوها النسيان حتى وإن حل الصمت محل صوت المدافع والدبابات.

الكثير من كتاب الرواية العراقية نسجوا حكاياهم عن واقع الحرب والحصار وصوروا مشاهدها المروعة، مشهد الجنود وهم يساقون لحتفهم من بين أحضان الأمهات ودفء البيوت أو ذلك الجندي وهو يلملم أجزاء زميله بعد قذيفة اختار لها القدر هذا المكان أو نيران المحرقة وهي تلتهم أطراف الجنود المبتورة أو ذلك الضابط وهو ينهال ضرباً على جندي لأنه عصى الأوامر عن غير قصد، أو فرقة الإعدامات ورصاصها يمزق أحلام الهاربين قبل أجسادهم، أو أرملة حرب تحاصرها الدموع ونظرات الناس التي لا ترحم كل هذا وأكثر تجد من كان يشكل الدائرة الأقرب لأصحاب القرار أن صنيعهم كان للعراق وللإنسان وللأمة؟ كما يقول صاحب وجوه النرد: “من هول الحرب أنها لا تحصد أمنياتها ثماراً عند انتهائها دائماً، ومن مفارقاتها إنها تخلق ذرائعها كلما اشتد أوارها، حتى يكون الحقد ثأراً يُطلب، ويتم التعصب له في قتل الخصم أو إذلاله. ولا تكون نهاياتها مرتبطة بهدف الابتداء بها، إنها عارية عن الانتماء إلى العقل قطعاً، فليس من العقل محاكمة غير العاقل بقانون العقل، إنها تمتلك قدرة الحضور مع غياب التعقل، وتثبت هذا الحضور بانفعال مدهش يقرب من هيام العاشق الولهان بحبيبة أفعى، لا تلمس ولا تحضن، لأن في أنيابها العطب”.

وهنا يمكن أن نسأل: هل ذهب الكاتب حسن كريم عاتي في وجوه حجر النرد إلى الرواية التسجيلية لأحداث واقعية مهدت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لجريمة الغزو صباح التاسع عشر من آذار عام 2003؟.، وهل وفرت الرواية فضاءً تسجيلياً يعتني بنوع من التفاصيل الخاصة بأحداث ما بعد الغزو الأمريكي وحصول التغيير، حيث يبرز جهد الكاتب في التركيز على الخراب في البنية التحتية والنفسية على مستوى البنية الاجتماعية العراقية، وظهور أشكال غير معروفة للتجاوز على الآخرين, ممثلاً بمظاهر القتل على الهوية ومصادرة ونهب أموال الدولة وأموال الناس، والاعتداءات التي تمارس على ما يمثل الدولة من مؤسسات والدوائر الحكومية وحرقها أو هدمها, للتعبير عن الرفض في أبشع أنواع التعبير، أو للحصول على منافع خاصة, أو للتمدد الجغرافي للجماعات المسلحة. وهنا يقول الكاتب في حجر نرده: “إذا كان طرفا الحرب، من شعب يقف هنا، وشعب يقف هناك، يتضوران من لظاها، ويرفضان فقد الأحبة من أجلها، فَلِمَ تستمر بالتهام ما تبقى؟”. ليضيف: “فالحرب لعبة سياسية أطرافها المتضررة، أصلاً، غير سياسية. إنهم عامة الناس الذين يبحثون عن هناءة العيش، التي لن يجدوها، أبداً، بين طيات الحروب التي كتبها سلاطين تاريخ بلدانهم من خلال صراع سياسي دموي، وحركات معارضة مسلحة وانقلابات عسكرية أدت إلى حروب دموية وحصار اقتصادي طويل، ثم احتلال. هذه الظروف كلها أفرزت في ربع القرن الأخير تقسيماً حاداً بين نمطين من السرد مكتوب في ظل النظام السابق، وقد تميّز بـ”نصوص تحاشت الخوض في محنة العراقي في زمنها. ونصوص بررت ثقافة الحرب في بنية روائية مجّدت قيم القتل والعنف، ونصوص تناولت مناحي الواقع الاجتماعي في زمنها لكنها تحاشت جوهر المعاناة، فالتبس السرد ووقعت الشخصيات في لجة الغموض؛ ونصوص تحاشت بشكل عام الاقتراب من المحرّمات الثلاثة: السياسة والجنس والدين.