الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

غريب عسقلاني..!

حسن حميد 

أعترف بأنني بكيتُ مرات عدة، وأنا أرى الكتب الفلسطينية تصدر داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه، لأنني لا أستطيع الحصول عليها لأعرف ما فيها، ولأقف بمواجهة البوصلة الفلسطينية الراشدة للمعنى الأبدي الأصيل للوطن التاريخ والجغرافية والعمران، وبكيتُ مرات عدة وأنا أرى الأدباء الفلسطينيين الذين تعلّمت على كتاباتهم يرحلون، وأنا لم ألتق أحداً منهم، بسبب فجيعة التشريد والتهجير، وبعد المزار، وكثرة الحدود، وهجس الرهاب المتفاعل كثيراً من لفظة الفلسطيني، رحل أميل حبيبي ولم أواجهه، ولكم تمنيت ذلك، ورجوت الزمن أن يسمح لي بدقائق لأراه، وأقابله، وأسلّم عليه مصافحة، بعد أن شدّني سرده المذهل فآخيته، ورحل إدوارد سعيد الذي شغل العالم، بلقاء معه، ورحل غسان كنفاني الذي كنا نهرّب قصصه والصحف والمجلات التي كتب فيها تحث ثيابنا داخل المخيمات كما لو أنها هي الأسرار الخوافي أو الذهب العتيق، ولم أعرفه إلا من خلال كتبه، لكن ما ضافف كتبه من أخبار ومرويات كان مهمّاً ونايفاً وفيه طعوم السحر الحلال. ورحلت سميرة عزام علامة القصة الفلسطينية الأشبه بنجمة الصبح، ولم أعرفها، ماتت في طريق العودة، فاستدارت شهقة التراجيديا أكثر، وكبرت.

بلى، وبكيت أيضاً حين رحل غريب عسقلاني، أحد أهم كتّاب السرد الفلسطيني، ولم أعرفه بدءاً إلا من خلال بعض قصصه، ورواياته التي وصلت إلينا بشق الأنفس والأنفاس والرجاءات، ولغريب عسقلاني قصة تراجيديا تشبه قصص تراجيديا رحيل الأدباء الفلسطينيين الذين مضوا من دائرة غربة إلى دائرة غربة أثقل وجعاً، وأكثر بكاء.

غريب عسقلاني، رحل قبل سنتين (1948-2022) في مثل هذه الأيام (21 حزيران) بعد أن استولى عليه مرضه وأحاط به، كنتُ أتحدث إليه في الندوات التي خصّت أدبه، وحفلات تكريمه في غزة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكنت في كل مرة أحدثه عن استقبالنا نحن الأدباء، لقصصه ورواياته، في مخيماتنا الفلسطينية في منافينا الكثيرة، فأراه يبتسم ويدلق رأسه على صدره مثل دالية تفصح عن عناقيدها التي امتلأت نضجاً وشكلاً وحلاوة، ويسألني أين تضعون قصصي ورواياتي، وما هي مكانتي عندكم، فأخبره أن قصصه هي من أغنى القصص الفلسطينية التي تحدّثت عن المكان الفلسطيني، وتحدثت عن العودة الفلسطينية بأنها ثابت روحي من ثوابت الأخلاق الفلسطينية، وأننا كنا، خلال سنوات الثمانينيات، على شوق طويل وحارق لكل قصة ينشرها في صحيفة أو مجلة أو كتاب، وقلت له إن كتبه القصصية والروائية، ناهيك عن الصحف والمجلات التي نشر بعض إنتاجه فيها، ذاب ورقها بين أيدي القراء لكثرة تناقلها من يد إلى يد، ومن بيت إلى بيت، وإن بعض أساتذة المدرسة الإعدادية في مخيماتنا، خصّوا دروس المطالعة والقراءة الرافدة بقصصه وقصص غيره من أدباء الوطن المحتل أمثال: أميل حبيبي، وزكي العيلة، ومحمد علي طه، وتوفيق فياض، وزكي درويش، وسلمان الناطور، ومحمود شقير، وخليل السواحري، ويحيى يخلف، ورشاد أبو شاور، ونواف أبو الهيجاء.. إلخ.. وكنت أقول له، نحن لا نعرف شيئاً عنك، ولا عن الكثيرين من أدباء فلسطين داخل الوطن المحتل، ما نعرفه هو بعض قصصكم، وبعض رواياتكم فقط، ونحن ما زلنا ننادي عليكم، كما نادى غسان كنفاني محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وسالم جبران، لكي يرسلون إليه بعض نصوصهم، نرجوكم أن تنشروا النص الأدبي الواحد ألف مرة، لعلّه يصل إلينا في واحدة من هذه المرات.

غريب عسقلاني.. أديب اسمه مستعار، نحته نحتاً، عوضاً عن اسمه الحقيقي إبراهيم عبد الجبار الزنط، حين أصبح فدائياً في الأردن، بعد أن رفضت سلطات الاحتلال عودته إلى قطاع غزة بعد احتلاله عام 1967، آنذاك كان غريب عسقلاني قد تسلّم شهادة الهندسة الزراعية من جامعة الإسكندرية في مصر، حيث أتمّ دراسته فيها، بعد أن بدأها في جامعة أسيوط، وغريب عسقلاني، هو ابن بلدة المجيدل في عسقلان، وابن التهجير والتشرد والغربة، ومن هذين الأمرين حتّ اسمه، فهو غريب وعسقلاني، وحين دار في دوائر المنفى المحيطة بالوطن الفلسطيني في الأردن وسورية، وعاد إلى قطاع غزة إلى مخيم الشاطئ، لم يغيّر اسمه، فظل غريب عسقلاني، وقد درّس الطلبة مدة عشرين سنة في المدارس الثانوية في غزة، وكان يرى اسمه الحقيقي مرة واحدة كل شهر في جداول الرواتب فقط، فيرحب به ويضحك لأنّ وجهاً من وجوه فعالية التراجيديا الفلسطينية هو الضحك كي لا تنفجر الصدور والأدمغة.

ترك غريب عسقلاني وراءه حوالي عشرين مدوّنة سردية، ما بين رواية وقصة قصيرة، وفيها تربخ التراجيديا الفلسطينية القاسية جداً، والبادية جداً في جروحها وفقدها وحرمانها من جهة، مثلما تربخ فيها معاني البطولة والمقاومة والصبر الأيوبي، وسيرة الألم ومفاعيله من جهة أخرى، وقد درس الطلبة هذه المدونة السردية في رسائل أكاديمية في الجامعات الفلسطينية والعربية.

رحل غريب عسقلاني بعد أن حاز تكريماً بأعلى أوسمة الإبداع الفلسطيني (الابتكار) فبكى وأبكى، وهو يرى العلم الفلسطيني وشاحاً يحيط بكتفيه وعنقه وصدره، وهو يسمع النشيد الفلسطيني يملأ رحابة الروح والمكان معاً، في الوطن العزيز، وقرب أسوار القدس.. بالمعاني الأثقال.

أما أنا، وغيري كثيرون، فقد بكينا بحرقة، حين رحل، لأننا لم نلتق بمن أحببناه وقدّرناه، أعني العم إبراهيم، غريب عسقلاني، ولم نعانقه العناق الذي يساوي في جماله جمال سنونوة فلسطينية بنت عشها الطيني من تراب دروب الوطن في سقف بيت فلسطيني تملؤه الآهات والغصات نهاراً، وتملؤه أحلام السعد والخلاص والافتكاك..ليلاً!

Hasanhamid55@yahoo.cm