الاستراتيجية الروسية والعلاقة الوثيقة مع كوريا الديمقراطية
ريا خوري
شهدت كوريا الديمقراطية وروسيا الاتحادية حدثاً مهماً خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغ يانغ التي أحدثت ارتباكاً وقلقاً متزايداً لدى قادة الغرب الأمريكي ـ الأوروبي، لأنّ تلك الزيارة توّجت بتوقيع معاهدة شراكة شاملة، فقد دقّت مسماراً آخر في نعش النظام العالمي المتهالك، وضاعفت من وهنه وفقدان توازنه، حيث عُدّت تلك المعاهدة مساراً جديداً يؤكد بوضوح فكرة التعدّدية القطبية التي تتعزّز يوماً بعد يوم، وتكاد تصبح حتمية تاريخية تغيّر مجرى التاريخ السياسي الدولي وتهزأ بمن يجرّون إلى الخلف، منحدرين إلى الضعف.
لقد تم تتويج العلاقة الاستراتيجية بين روسيا وكوريا الديمقراطية بعقد اتفاق الشراكة الذي ينص على المساعدة المتبادلة في حالة العدوان على أي منهما، حيث أكّدت تصريحات الرئيس الروسي في أعقاب توقيعه مع الزعيم الكوري الديمقراطي كيم جون أون، اتفاق شراكة استراتيجية بعد محادثاتهما في بيونغ يانغ. ولم يتم كشف مضمون هذه الوثيقة في هذه المرحلة، لكن بوتين أوضح في مؤتمر صحفي أنَّ اتفاق الشراكة مع بيونغ يانغ يسمح بالتعاون العسكري والأمني على أعلى المستويات، مؤكداً حرص بلاده على رفع العلاقات مع بيونغ يانغ إلى مستوى جديد. من جهته أكّد كيم أنَّ هذه الاتفاقية تهدف إلى المساعدة المتبادلة مع روسيا الاتحادية وهي اتفاقية (دفاعية بحتة).
لقد أبدى الغرب الأمريكي ـ الأوروبي خشيته من عملية تعزيز التعاون العسكري بين موسكو وبيونغ يانغ، التي يقولون إنها تزوّد أساساً الجيش الروسي على الرغم من قوته الفائقة بالذخائر والصواريخ النوعية في عمليته العسكرية في أوكرانيا.
لقد كان لزيارة بوتين الرسمية إلى بيونغ يانغ أهمية كبيرة في مضمونها وأهدافها وأبعادها الاستراتيجية، وهي في الإطار العالمي الجاري لا يمكن الاستهانة بها، أو التقليل من شأنها، فضلاً عن تأثيراتها الكبيرة في العلاقة المتوترة بين روسيا الاتحادية وكوريا الديمقراطية من جهة، والقوى الغربية الأمريكية ـ الأوروبية من جهةٍ ثانية. فهذه المعاهدة مكسب كبير لا مثيل له بالنسبة لكوريا التي تخضع لعقوبات أمريكية مزمنة قاسية، وتعيش عزلة دائمة وصعبة، وتريد أن تكون لاعباً كبيراً وازناً في إقليمها بدعم كبير ومباشر من الصين، وتحالف شبه منجز مع روسيا الاتحادية. وهذا تعبير عن تغيّر الزمن كما قال الرئيس الكوري، حيث تغيّر وضع البلدين في بنية الجغرافيا السياسية العالمية التي تغيّرت أيضاً، بينما أشار الرئيس الروسي إلى أنَّ أحد بنود هذه المعاهدة المهمة ينصُّ على تقديم المساعدة في حال تعرَّض أحد طرفيها لعدوان خارجي وهو يقصد العدوان من القوى الغربية الأمريكية ـ الأوروبية، وهذا البند هو الأكثر إزعاجاً وقلقاً للولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الأوروبيين وبقية الدول من حلف شمال الأطلسي، ورد مباشر بالغ الدلالة، على مساعي قوى الغرب الأوروبي ـ الأمريكي تزويد أوكرانيا بأنظمة أسلحة عالية الدقة بعيدة المدى، ومقاتلات حربية من طراز (إف-16)، وغيرها من الأسلحة والذخائر والمعدات المماثلة لشنّ ضربات عسكرية على الأراضي الروسية. وكان بوتين قد حذَّر من تبعات هذه الخطوة، وصرَّح عدة مرات بتسليح أطراف دولية مناوئة للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لاستهداف مصالح دولها. وقد وقف عدد كبير من الخبراء الاستراتيجيين والمتابعين على هذا التلميح وتلك التصريحات، معتبرين أنَّه تعبير عن نفاد الصبر الروسي، وتنفيذ هذه الخطوة سيجعل من جيوش العديد من الدول، أكثر فتكاً وقدرةً وقوةً على التصدي للسياسات الأمريكية والغربية الأوروبية، ويسرّع بتقويض أسس سيطرتها على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م. ومن هذا السياق وتلك الرؤية، زيارة الرئيس بوتين إلى كوريا الديمقراطية ليست إلا غزوة من حرب كبرى تدور الآن على مستوى واسع لتشكيل نظام عالمي جديد له خصائصه الجديدة، ورد فعل جيو سياسي وجيو استراتيجي ذو ارتدادات بعيدة المدى، ومقدَّمة لرسم حدود وخرائط تحالفات سياسية وعسكرية وأمنية وعسكرية فعّالة، استعداداً لأي عملية حسم متوقعة.
في حقيقة الأمر، وجدنا حالة من القلق الواضح من زيارة الرئيس بوتين إلى بيونغ يانغ، تجلّت في وسائل الإعلام الغربية التي حاولت التماسك نوعاً ما وإشعار المواطنين الغربيين بأنهم ما زالوا يشعرون بالتفوق والتعالي، فقد وصف الإعلام الغربي روسيا الاتحادية وكوريا الديمقراطية، بأنهما دولتان معزولتان عن العالم، وتخضعان لعقوبات صارمة أحادية الجانب من الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها، لكن الرئيسين بوتين وكيم أبديا تجاهلاً واضحاً لهذه العقوبات التي أصبحت مثيرة للسخرية من تلك الدول التي قامت بها، وارتدّت وبالاً على فارضيها بشكلٍ سلبي، مع إفلاس تاريخي واضح وفاضح، وارتفاع غير مسبوق في نسب المديونية والزعزعة التي تعاني منها البنوك المركزية الغربية، كما تعاني من زلازل سياسية عنيفة أحدثها كان في القارة الأوروبية العجوز، مثّلها صعود اليمين الشعبوي المتطرف.
وفي غياب الاعتراف بأن الواقع العالمي يتغيّر بشكلٍ متسارع، فإنَّ المخاطر ستتوالى تباعاً، وسيجد الغرب الأمريكي ـ الأوروبي نفسه في نهاية المطاف هو المعزول عن العالم. وجميعنا يدرك أنّ روسيا الاتحادية تملك القوة الحاسمة في العالم في مجال السياسة الدولية منذ القرون الوسطى، وهي بذلك ليست على هامش العالم، ومعها جمهورية الصين الشعبية وجميع الدول النامية التي ترفض سطوة وهيمنة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، حيث بدأت تتمرّد بقوة وكفاءة على قوى الاستعمار الجديد والاستعمار القديم. جميع تلك الدول تسعى جاهدة إلى أن يكون هذا العالم أكثر استقراراً وأمناً وعدالة إنسانية واجتماعية، وأن تشعر شعوب تلك الدول بوجودها السياسي والاقتصادي والأمني بين الأمم والشعوب، وليس خاضعاً لهيمنة وسطوة النظام العالمي الأحادي القطبية، بل بالتحرر من كل أشكال العبودية والقهر والفقر والضعف.