ثقافةصحيفة البعث

المفارقة في ديوان “بارقات تومض في المرايا” للشّاعر منذر يحيى عيسى

د. مسلك ميمون

عن اتحاد كتاب العرب في سورية صدر ديوان شعر للشاعر منذر يحيى عيسى في صنف قصيدة النثر، هذا الصنف الذي عمّ وانتشر حتّى كاد يخفي معالم قصيدة التفعيلة، بله القصيدة الكلاسيكية ـ العمودية.

بادئ ذي بدء قصيدة النثر كمصطلح ظهرت في مجلة “شعر” سنة 1960، وذلك للدّلالة على شكل تعبيري جديد، وطبعاً، لم تكن قصيدة النّثر من فراغ، بل جاءت معتمدة أشعار كلّ من أدونيس وأنسي الحاج، فضلاً عن دراستيهما التأسيسيتين لكتاب “سوزان برنار” 1959 “قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا هذه”، وكلّ الدراسات الغربية والعربية التي أمكنني الاطلاع عليها خلال الأربعة عقود الأخيرة، تكاد تجمع على أنّ قصيدة النثر قوامها الخصائص الآتية: الوحدة العضوية ـ مترابطة، ما يحقق الانسجام الدّاخلي، والكثافة اللّغوية، ما يحقق التّوهج والإشراق، والجمل الشّعرية، وهذا يحقق براعة التّصوير والتّخييل، والمجانية ـ اللازمانية، والإيقاع المفتوح الداخلي وأساسه الحرف (على عكس الموزونة فهو مغلق).

وفي كلّ هذه الخصائص، تغيب خاصية من صلب الشّعر، وهي المفارقة، فلا أذكر في كلّ ما اطلعت عليه من دراسات أن كانت هناك إشارة للمفارقة في قصيدة النثر. وإن كان يخامرني إحساس أنّها ذكرت، ولم أطلع عليها، أمّا قصائد النثر غربية وعربية فلا تخلو من مفارقة، ولنا كأنموذج حديث ديوان “بارقات تومض في المرايا” للشاّعر منذر يحيى عيسى.

فما المراد بالمفارقة؟.. إنها ببساطة مصطلح يستعمل في علم الأسلوب، الغرض منها، الالتقاء بين الأضداد، والالتئام بين النقائض، أي تناقض ظاهري، وهي قد تجمع بين التّضاد واللامنطق والحيرة، أو لنقل إنّها فرضيات تبدو مقبولة لخاتمة غير مقبولة، وهي فلسفياً لغة العقل والفطنة، فقد جاء الديوان حافلاً بوجوه المفارقة:

1 ــ المفارقة في شكلها المادي: في الكون ثلاث حالات للمادة صلبة أو سائلة أو غازية، ولكلّ خصائصها المعروفة، المادة الصلبة لها حجم وشكل بغض النّظر عن مكان وجودها، والمادة السائلة لها أيضاً حجم محدّد لكن ليس لها شكل ثابت محدّد، والمادة الغازية تتمدّد لملء الحجم الكامل بالحرارة والضغط  فتتغير حالتها، فالجليد الصلب يصبح سائلاً، وبارتفاع الحرارة قد يغلي السّائل ويصبح بخاراً أي حالة غازية، ووفق هذه الخصائص تختلف عناصر المادة أو تتضاد، مشكّلة مفارقة مادية، وذاك ما نلمسه في قصيدة “شهوات متخيلة” (ص22):

عندما تتربع الشمس

في ملكوتها الأزلي

وتسكب فيوض قدراتها

على زبد الأرض

تتبخر شهوة الروح

لبس عريها الأبدي

وتصعد إلى الجنان

المادة الصلبة في تضاد والمادة الغازية، “الشمس متربعة + الملكوت الأزلي (تقابلها) تبخر الشهوة + العري الأبدي، الشيء نفسه يتكرر في قطعة “الأشباح” (ص4) في مفارقة مادية بين رحم ـ باطن الأرض وسطحها:

أجساد تتزاحم في رحم الأرض

عند بدء رحلتها الأبدية

إلى أن يقول:

إن سطحها لا يتسع لهذه الأجساد الشبحية

في حالة الغفلة والسكون

أجساد + رحم الأرض (تقابلها) سطحها + الأجساد الشبحية.

وتتكرر المفارقة المادية في أكثر من نص كما هو الأمر في نص “الرحم الأول”:

مفارقة بين البحر والأرض ـ اليابسة:

البحر هو الرحم الأول

الأكثر رأفة  من عنت الأرض

وعسف الهدير…

فلمَ لا تكون من البحر البداية

وإلى ليىونته,, النهاية؟!”

المفارقة الثقافية: وهي التي تتحقق من خلال تناقض النّسق الثقافي، وقد وردت متكررة في نص “رغبات الشّاعر”:

الشاعر يحمل مصباحه

ليضيف إلى عتمةِ داخلهِ

عتمة…

ليقول ما يتمنى قوله

وليَري ما يرغبُ أن يُرى

خلف حجب

من الكلمات المتنكرةّ

في النص ثلاث مفارقات، الشاعر يحمل مصباحه ليضيف إلى عتمةِ داخلهِ عتمة، ليقول ما يتمنى قوله خلف حجب من الكلمات المتنكرة، وليَري ما يرغبُ أن يُرى خلف حجب من الكلمات المتنكرة، إذ كيف يصبح مصباح الشّاعر عتمة تضاف لعتمته الداخلية؟، وكيف يتمنى قول ما يجيش بصدره، ولكن من خلال كلمات متنكرة خلف حجب؟، وكيف يرغب في كشف ما يريده أن يرى، ولكن من خلال كلمات متنكرة خلف حجب؟.

أسئلة تحيل على التأمّل والتّفكير، وإن جاءت بصيغة قلب المعنى، وذلك دور تطلع به المفارقة من أجل تعميق الوعي بذات الشّيء، وتتكرر المفارقة ذاتها في صورة أخرى ثقافية في نص “المستحيل”:

المستحيل مصطلح كأنه خرق

قدت من قبل ومن دبر

بها نحاول ستر عورات

عرينا الملسوع

وما نعجز عن بلوغه

وقد سبقنا الثعلب

بحكايته مع العنب

فكيف للخرق التي قدّت من قبل ودبر أن تستر عورات؟ وكيف للثعلب الذي حاول الوصول إلى عنقود العنب، وحين عجز، قال: إنّه حصرم أي عنب حامض؟ وتتكرّر في نصوص منها “عدالة الزبد”، و”وهم الحرية”، و”كميائية الزّواج”، و”نظرية التطور”، و”لباس حضاري”، و”الجوال”، و”نظرية الاستعراضية”، و”حبة فاليوم”..

أما المفارقة الرومانسية فتتجلى في نص “ملجأ العشاق”:

مصباح الشارع

يقف باستكانة ليلاً.. منتظراً

قدوم عاشقين

يبحثان في ظلامه عن مكان مسحور

يسترهما عن الأعين البخيلة

والمفارقة كيف يكون مصباح الشارع للإنارة، ويأتيه العاشقان بحثاً في ظلامه عن مكان مسحور؟ وتتكرر المفارقة في نص “قرار الرّومانسية”.

وعلى الرغم من أنّ للمفارقة أشكال متنوعة كما حاول حصرها الدكتور خالد سليمان في كتابه “المفارقة والأدب”، والذي بدوره استقاها من تقسيمات “ميويك” أشهر دارسي المفارقة، فإنّ الشّاعر منذر يحيى عيسى في كلّ ديوان “بارقات تومض في المرايا”  ركّز على نوعين أساسين من المفارقة، وإن كانت لهما لواحق وتفريعات وهما:

المفارقة اللّفظية ومفارقة الموقف، وذلك أضفى على القصائد ــ على الرغم من قصرهاــ  نكهة أسلوبية، ومتعة قرائية تعيد إلى الأذهان مصاحبة المفارقة للشّعر منذ القدم، تلك المصاحبة التي تجلّت في أجناس أخرى مختلفة، بل أصبحت من خصائصها البنائية، كما هو الشّأن في جنس القصة القصيرة جداً، كجنس مستحدث في إطار السّرديات.