“موضة” العناوين بلا علم ولا فن!
غالية خوجة
العنوان محور أساسي لأي عمل أدبي وعلمي وفني وإداري واقتصادي وتجاري، ولأي فعالية إنسانية من مؤتمرات ومحاضرات وأمسيات وجلسات.. لماذا؟ لأنه من المفترض أن يختزلَ الشكل والمضمون معاً، وله نظام فني علمي سيميائي لساني جمالي كنص موازٍ، ويتمتّع ببنية لغوية وظيفية داخلية وخارجية لها مستويات متنوعة كمية، صوتية، نحوية، صرفية، دلالية، نسقية، ولذلك اهتمّ به النقاد العرب والأجانب، وصدرت بخصوصه الكثير من الكتب، وعدّه النقد الحديث نصاً للنص، لأن كلّ عمل هو نص بدءاً من اللوحة عبوراً إلى الموسيقا والشاشة والمقالة والإعلان، وصولاً، بكل تأكيد، إلى الكتاب سواء أكان علمياً، أم فكرياً، أم أدبياً.
إذن، العنوان هو الرأس الجامع لبقية الفهرس والمحتوى، كما أن دلالاته تشكّل شبكة إشارية للموضوع الذي يتوقع القارئ أو السامع أو المشاهد أو المشارك أو المتابع أن يستفيد منه، فإمّا أن يُقبل أو يُدبر.
ودرجت المؤلفات القيّمة، وعيون الكتب، وأمّهات المخطوطات، على جدية العنوان، والاهتمام به بدقة لا تقلّ عن دقة الموضوع، ولغته التي تهتمّ حتى بالفاصلة والنقطة والشرح والإسناد إلى المراجع والمصادر إن استعان بها المؤلف، لكنّ الاهتمام بهذه الجدية بدأ يتلاشى مع الزمن، وصار ينزح إلى التجارية، خصوصاً، مع انتشار دُور النشر الخاصة، لكونها مهتمّة بالناحية المادية الربحية كأساس، لذلك أغلبها لا يكترث بالعنوان والمضمون، وللأسف، استدرج العامل الربحي الكثير من الذين يكتبون، فصارت أغلبية الكتب المنشورة ضمن هذا المجال تبيح ما لا يباح، وتدسّ السمّ في الدسم، وتعمل على جذب المزيد من الناس الذين لا يمتلكون الوعي الثقافي المناسب للاختيار والفرز، ولربما غشّت العناوين الكثير من القراء، فانجذبوا لها ليكتشفوا بعد شرائها أن العنوان كان طعماً لمضمون لا يريدونه أبداً!
وهذا ما يحدث أيضاً مع عناوين بعض الفعاليات والأنشطة، فنفاجأ بالمستوى الهزيل والهزلي، لأن العنوان في وادٍ، وبرنامج الفعالية في وادٍ آخر، وكما يقول المثل الشامي “العرس بدوما والطبل بحرستا”!
أمّا مع مرحلة الشاشة الافتراضية والكتب الإلكترونية، فكما تعرفون وتتابعون، اختلط الحابل بالنابل، ونادراً ما نجد كتاباً ننجذب لقراءته متوقعين أنه سيضيف لثقافتنا جديداً.
ومن المتعارف بين الناس أن “المكتوب من عنوانه”، سواء أكان رسالة واقعية، أم افتراضية، أم كتاباً، أم دعوة، أم صحيفة، أم موقعاً، أم غير ذلك مما يندرج ضمن هذا المفهوم الذي نناقشه، ولذلك، أتساءل: ألم ينتبه الذين يكتبون لعناوين كتبهم، خصوصاً، البعض من الجيل الشاب؟ وأرى أن هذا السؤال المهمّ يفرض نفسه بقوة ونحن نتابع أول كتاب لكاتب أو كاتبة من هذا الجيل، وهو يعنونه بعنوان مشتق من اسم هذا الكاتب أو الكاتبة مضافاً إليه ما يخصّ جمع التأنيث، ليكون مثلاً “بلائيات”، ولربما أضيف بعد هذه البلائيات كلمة مشتقة من الوجدان والعاطفة، والمؤسف أنها أصبحت “موضة” بكل معنى الكلمة، وكثر المطبّلون والمزمّرون لها بحجة التشجيع، ولا أعرف من يستدرج أمثال هؤلاء الكتّاب ليضعوا هذه العناوين، لأن من يستدرجهم يذمّهم بصيغة المدح! ويجعلهم مصابين بحالة أنانية، أو نرجسية سلبية، ولهذا آثاره المستقبلية السلبية على الشخصية الكاتبة في حياتها الشخصية والاجتماعية والإنتاجية.
ترى، لماذا لم يكن عنوان ديوان المتنبي الوحيد “المتنبيات”؟ ولم يكن عنوان ملحمة الإلياذة والأوديسا “هوميريات”؟ ولم يكن سرد تشايكوفسكي “تشايكوفسكيات”؟ ولم تكن روايات نجيب محفوظ “نجيبيات”؟ ولماذا لم يفعلها نزار قباني، بل أقصى ما فعله مع اسمه أنه عنون ديوانه الخامس والثلاثين عام 1995 بـ “تنويعات نزارية على مقام العشق”؟
العنوان بحدّ ذاته فنّ وإبداع وتفرّد وعلم، بينما “موضة العناوين” تدعو إلى التشابه، والتقليد، والمؤلف المبدع هو من يبحث عنه القارئ، وعن كتبه، وليس العكس، أي ليس المؤلف هو الذي يبحث عن القارئ ليصطاده بعناوينه، لأن القارئ لا بدّ وأن يكتشف لعبة الطعم ويتخذ الإجراءات المناسبة.