“المجتمعات الافتراضية” أداة الليبرالية الحديثة لتعميق المشكلة الأخلاقية العربية
يعيش المجتمع العربيّ المعاصر كارثةً معرفيةً غير مسبوقة، واغترابٍ ثقافيٍّ مزدوجٍ عميق، فالعرب عموماً لا يساهمون في إثراء المعرفة العالمية إلا بقدرٍ قليلٍ لا يُحدث فرقاً في المسار الإنسانيّ، وتعاني أجياله المعاصرة من اغترابٍ عن ثقافتها وتراثها من جهة، واغترابٍ عن شخصيتها العربية من جهةٍ ثانية، فالمجتمعات العربية عموماً باتت مخترقةً ثقافياً سيما مع موجة العولمة الثالثة، وتتنازع بناها الثقافية عدّة هوياتٍ فرعيةٍ ما دون وطنية، والظاهرة الثقافية لم تعُد رهاناً سياسياً، والعرب عموماً لم ينجحوا في تحديث بناهم الدولتية التقليدية لمواجهة التحدي الراهن أو لمواكبة المستقبل والاستعداد له، فهم من أكثر الشعوب استهلاكاً للحضارة ومن أقلّهم مساهمةً في ابتكاراتها، هذه الحالة المأزومة والمستمرة منذ عقودٍ أفرزت إحباطاً عاماً في المجتمعات العربيّة عمقّ من أزمات المجتمع سيما الاقتصادية منها، وجعلت نفراً من هذه المجتمعات عرضةً لاستقطاب مغريات الليبرالية الحديثة وأدواتها، وانعكست صراعاً (متجدداً) في بنية الثقافة العربية بين قيمها الأخلاقية ومصادرها، هذه النقاشات والتي لم تُحسم يوماً ضمن ثنائية التيارات الدينية والحداثية، عادت لتدخل نفقاً مظلماً في عصر “المجتمعات الافتراضية”، التي أخرجت السلوك البشري باعتباره المجّسد الرئيس للقيم والأخلاق من بُعده البشريّ الإنسانيّ إلى بُعده الرقميّ وما يخفيه هذا العالم من متاهاتٍ تضع الظاهرة الإنسانية بأبعادها الاجتماعية والأخلاقية على محك المواجهة والتفتت والتغيير.
في العالم الذي نعيش فيه راهناً، أصبحت التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تعيد تشكيل الطريقة التي نتواصل بها ونتفاعل مع الآخرين، وكذا الأمر تعيد تشكيل قيمنا ومحددات سلوكنا، فمنذ الأيام الأولى للرسائل المكتوبة إلى العصر الرقميّ للرسائل الفورية ووسائل التواصل الاجتماعي، كان تطور الاتصالات مهماً وتحويلياً في تغير بنية التواصل الاجتماعي، وصل حدّ الحديث عن “المجتمعات الافتراضية”، فالمجتمعات موجودةٌ في كلّ مكان حولنا كلُاً أو جزءً، بدءً من العائلة أو الأصدقاء أو مجموعة من الأشخاص الذين يشاركوننا اهتماماتنا، وبنفس المعنى: في عصرٍ رقميٍّ متناميّ، تأخذ المجتمعات “عبر الإنترنت” مبادئ مماثلةً من المجتمعات الطبيعية وتجعلها افتراضية، ولكن هل وصلت “المجتمعات الافتراضية” إلى بنيةٍ مماثلةٍ للمجتمعات الإنسانية؟، وما مدى تأثير تلك المجتمعات الافتراضية على العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية الطبيعية؟، هيّ أسئلةٌ مازالت في طور الاستكشاف والبحث عن إجابات، هذه الإجابات تبدأ بمطابقة خصائص الظاهرة الاجتماعية وتلك المشابهة لها رقمياً، فالمجتمع هو مجموعةٌ من الأفراد المشاركين في تفاعلٍ اجتماعيٍّ مستمرٍ أو مجموعةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ تتقاسم نفس المنطقة المكانية أو الاجتماعية، وعادةً ما تخضع لنفس السلطة السياسية والسمات الثقافية السائدة، تتميز هذه المجتمعات بأنماطٍ من (العلاقات الاجتماعية) بين الأفراد الذين يشتركون في ثقافةٍ مشتركة، ويمكن وصف مجتمعٍ معينٍ بأنّه مجموع هذه العلاقات بين أعضائه المكونين، وتتميز المجتمعات بقيمها ومعتقداتها وثقافاتها المشتركة عن المجتمعات الأخرى التي تتشارك معتقداتٍ وثقافةٍ مختلفة، بينما المجتمعات الافتراضية هيّ مجموعةٌ من الأشخاص لديهم اهتماماتٌ أو أهدافٌ مشتركةٌ يستخدمون الإنترنت للتواصل الاجتماعي، عادةً ما يكون للمجتمعات الافتراضية مجموعةٌ من الإرشادات وطرق التواصل الخاصة بهم، بعبارةٍ أخرى هيّ مجتمعات التواصل الذي يعتمد على التقنيات الرقمية مثل الهواتف المحمولة والإنترنت والبريد الإلكتروني، ولأنّ “المجتمعات الافتراضية” أصبحت اتجاهًا رئيسيًا في سلوكنا وهو اتجاهٌ من المتوقع أن يستمر خلال العقد القادم مع بدء تزايد قوة منصات الوسائط الاجتماعية، لابدّ من حسم مدى التقارب بين الظاهرة الاجتماعية الإنسانية وبين الظاهرة الاجتماعية الرقمية.
وبمقارنة مفهوم المجتمعين نجد أنّ مفهوم المجتمع بأبعاده السيسيولوجية لا يتطابق مع ذلك المتشكل بالفضاء الرقميّ، فحجم الاختلاف الثقافيّ والقيميّ وأنماط التفاعل بين مكوناته من جهة، وغياب إرادةٍ جمعيةٍ واعيةٍ لتنظيم المجتمع من جهةٍ ثانية تجعلهما سياقين مختلفين، ناهيك عن صفة الديمومة التي لا تتوفر في الحالة الرقمية. ورغم عدم التطابق لا يجوز إغفال (التشكل المشوه) للمجتمع الافتراضي، الذي يؤثر على المجتمع الإنسانيّ بصورةٍ مباشرة، سيما من الناحية القيمية والأخلاقية والسلوكية، فالقيم الأخلاقية هيّ البنية التحتية للسلوك ومحركها باعتبارها مجموعةٍ من الأحكام الانفعالية النابعة من العقل، والتي تقود الشخص نحو رغباته واتجاهاته، وتُكتسب هذه القيم من المجتمع المحيط فيتعلمها الشخص وتُصبح هي المُحرِّكَ لسلوكياته العامة والخاصة، فأيّ اختلالٍ في هذه المفاهيم الأخلاقية ستنعكس على المجتمع على شكل سلوكياتٍ منحرفةٍ عن القيم التي اتفقت عليها المجتمعات، دون إغفال أنّ المعتقدات والقضايا الاجتماعية تصبح أخلاقيةً عندما يتم تأطيرها في إطار المصالح أو الصالح العام لشيءٍ يتجاوز الفرد، مثل المجموعات الاجتماعية أو الشبكات أو المجتمع بأكمله، وتتأثر المعتقدات الأخلاقية أيضًا بشكلٍ كبيرٍ بالهويات الاجتماعية – مثل الهويات الدينية أو السياسية – وتحتل الهوية والأخلاق مكانةً بارزةً بشكلٍ خاصٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنّ الناس يستطيعون بسهولة الإشارة إلى هوياتهم أو معتقداتهم على شبكاتهم الاجتماعية، وعليه تؤثر المجتمعات الافتراضية بالبنية الأخلاقية والقيمية للأفراد بشكلٍ أسرع مما يحدث في المجتمعات الطبيعية، فالمجتمعات الافتراضية تعمل على إعادة إنتاج والمبالغة في السلوك الاجتماعي والديناميكيات التي تنبثق من هوياتنا وأخلاقنا واستقطابنا السياسي، ولأنّ السلوك البشري متأثرٌ بالحالة النفسية وربما انعكاسٌ لها لا يمكن تجاهل الآثار النفسية للمجتمعات الرقمية على السلوك البشري فالعيش في عالمٍ شديدٍ الترابط له آثارٌ نفسيةٌ لا يمكن إنكارها، في حين أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والتواصل الفوري البقاء على اتصال مع أحبائنا والوصول إلى المعلومات بسرعة، فقد ساهمت أيضاً في حدوث مجموعةٍ من مشكلات الصحة العقلية، ومن أبرز الآثار المترتبة على ذلك زيادة الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية، على الرغم من كونهم على اتصال دائم، غالباً ما يشعر الناس بالانفصال وعدم الرضا في علاقاتهم، وهذا يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب والقلق وانخفاض الشعور بالرفاهية، من جهةٍ متممةٍ خلقت وسائل التواصل الاجتماعيّ ثقافة المقارنة والمنافسة، حيث يشعر الأفراد بالضغط لتقديم صورةٍ مثاليةٍ للعالم، وهذا يمكن أن يؤدي إلى مشاعر عدم الكفاءة وانخفاض احترام الذات، فضلاً عن القلق والاكتئاب، ولأنّ الحصول على الاستحسان والتقبل الاجتماعي والرضا والأمان وإشباع الحاجات الفسيولوجية هو هدف السلوك الإنسانيّ، يصبح الاضطراب النرجسي مُرجحاً أكثر في المجتمعات الرقمية، ولهذا الاضطراب نتائج بالغة التأثير على السلوك، ولعلّ الفارق ذو الدلالة بين المجتمعين الطبيعيّ والافتراضيّ هو كون مجموع الأفراد مسؤولين عن وضع معايير السلوك المقبولة بالمجتمع البشري الطبيعي، بينما تسمح خصائص “المجتمعات الافتراضية” للأفراد بوضع معايير خاصة بهم، وبينما يكون السلوك مقبولاً في المجتمع الطبيعي بمجرد انسجامه مع المعايير العامة للمجتمع، يكون السلوك الفردي في المجتمعات الافتراضية مقبولاً بمجرد عدم الاعتراض عليه، وهنا مداخل الليبرالية الحديثة لتدمير البنية الأخلاقية العربية والمستندة إلى العقائد الدينية والمعايير الوضعية المتفق عليها، فالمجتمعات الرقمية تضيف مصدراً جديداً لمصادر تشكل القيم في المجتمعات الطبيعية يفاقم من أزمتها المتجددة مع كلّ مرحلة تاريخية، وبالتالي تفاقم من المشكلة الأخلاقية العربية والتي تتجسد في مشكلة القيمة بحد ذاتها ومشكلة المعيار الذي يحدد الفعل الأخلاقي، وفي العصر الرقمّي تسعى الليبرالية الحديثة إلى جعل معيار الفعل الأخلاقي ذاتيًا، وهنا تصبح “المجتمعات الافتراضية” أداةً من أدوات الليبرالية الحديثة، لذلك، مستقبلاً ومع تطور التكنولوجيا، ستتطور ديناميكيات العلاقات الإنسانية، من المرجح أن يشهد المستقبل تطورات في تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، مما يعد بتفاعلاتٍ رقميةٍ أكثر واقعية، يتعذر معها تمييز الاجتماعات الافتراضية عن اللقاءات المباشرة، مما يؤدي إلى محو الحدود الجغرافية وتهديد الخصوصيات الجيو ثقافية، مما يهدد بتفاقم المشكلة الأخلاقية الراهنة في الثقافة العربية المعاصرة.
الدكتور سومر منير صالح
عميد كلية العلاقات الدولية-جامعة الشام