ثقافةصحيفة البعث

الصور ذاكرة الزمن الجميلة

جمان بركات

هناك متعة خاصة في النظر إلى الصور القديمة، فهي تمنحنا لمحةً عن ذكريات وفترات زمنية لم نعشها، ولكننا سمعنا عنها فقط من آبائنا وأجدادنا، فأصبحت بمثابة صورة وقصة في آن واحد، وربما يحتاج كلّ إنسان أن يعود يوماً لصوره القديمة، يفتح باب ذكرياته ليتأمل قليلاً سنين مضت، تغيّرت عبرها أشياء كثيرة، يقلّب ألبومات مضى عليها زمن، للبحث عن ذاته وأشخاص كانوا يشاركونه أجمل اللحظات، تأخذه تلك الصور إلى أشياء ربما كانت أكثر جمالاً في زمن مضى، وأكثر حباً، لضحكة صادقة كانت تخرج من القلب، لمساحة تمتلئ بالصدق، وأحياناً لحزن مدفون لأناس رحلوا عن الحياة، وبقيت صورهم الحاضر الوحيد.

تعود هذه الصور في عصر لم يعد فيه للصورة قيمة كما كانت عليه سابقاً، إذ طغت الثورة الرقمية، وأجهزة متطورة تخزّن آلاف الصور، وتُنسى بعد لحظات من التقاطها، لأنها لا تعلق بالذاكرة، وبحنين لذلك الزمن الجميل، نعود وكلنا اشتياق لذكريات متناثرة داخل صورنا القديمة التي لا نزال نحتفظ بها حتى اليوم، حيث تطالعنا وجوه وأسماء قد تكون تلاشت من الذاكرة مؤقتاً أو غابت بسبب مشاغل الحياة وهمومها، لكن بمجرد تقليبنا لألبوم الصور نستعيدُ كل ما مضى من مشاعر مختلطة ما بين الفرح والحزن، فما من أحد منا إلا وعانى من فراق أشخاص كثيرين غابوا عن حياتنا لكنهم ظلوا حاضرين بذكرياتهم وصورهم عبر سنوات طويلة مرّت، فالأيام تغيّر بالشخص وربما تفقده المشاعر، لكنه في وقت ما يعود لصوت الحنين ودفء الأشخاص وروح المكان والزمان.

وأعتقد أن أجمل الأوقات تلك التي نقضيها بين صور بهتت ألوانها، لكنها لا تزال تشدّنا بعفويتها إلى عمر كامل من الفرح والطيبة، لذلك أغلبنا يحبّ أن يبقى على تواصل مع ذكرياته من خلال الصور لكونها تمنحنا إحساساً جميلاً، وتنقلنا إلى تلك الأيام بكل ما فيها من مواقف مفرحة أو محزنة.

بين الصور القديمة، يسترجع الإنسان ذكريات لا تنسى ستبقى محفورة في أعماقه للأبد، لأنها وثّقت أصدق اللحظات والمواقف العفوية التي كان لها الأثر الكبير في النفس، لأن الصور جزء لا يتجزأ من حياتنا، نستعيد معها شقاوة الطفولة وأيام الصبا وذكريات الحب الأول واجتماعات الأحبة، فهي ذاكرة يقظة مغلّفة بأصدق المشاعر وأنقاها لا تمحوها السنوات الطويلة وابتعاد المسافات وفرقة القلوب، إضافةً إلى أن الصور إرث قيّم يحفظ بين ثناياه أجمل اللحظات، لكن هناك من يسيئون استخدامه، فهناك أشخاص لديهم قدرة عجيبة على إفساد اللحظة وتحويلها إلى حوارات ساخرة، ومن هنا يختلف الأشخاص في تعاطيهم مع صورهم القديمة، لكن الغالبية تشعر بمتعة كبيرة في التنقل بين مراحل العمر الموثّقة داخل تلك الألبومات، كما أن عودتهم إليها تزيدهم تفاؤلاً واشتياقاً لأيام يعتبرونها الأجمل والأصدق، والنظر إلى الصور باستمرار يدفع إلى تجديد علاقاتنا مع أشخاص أبعدتنا مشاغل الحياة عنهم.

في زمن مضى كان الذهاب لاتخاذ صورة في استوديوهات التصوير زيارة لها ما لها من فرحة، ولها متطلبات من حسن الهندام والتهيؤ لتلك اللحظة الفارقة، ثم كانت الكاميرات الفوتوغرافية ذات الأفلام، التي كان لنا معها جولات وجولات، أخرجت لنا وحفظت في حافظة الذكريات ما ينعش النفس، ويحيي الذاكرة، وينثر العبير، الذي نستطيع بحق أن نتنسم ما يفوح من ثناياها.

في زمننا الحاضر يوجد أحدث وأسهل وأسرع أجهزة تصوير من كاميرات ذكية نستطيع عبرها تصوير ما نريد ونراه وأكثر، غير أننا عندما نحاول البحث عمّا صورناه من أحداث لا نجده كما رغبنا لحظة التقاط الحدث، فيبدو الأمر وكأن هذه الصور طبعت بطابع العصر الذي التقطت فيه، وكأن صلاحيتها تنتهي مع اللحظة التي يتمّ التصوير فيها، فكم هو جميل أن نوّثق اللحظات الجميلة والبسيطة في حياتنا، ونطبع هذه الصور ونضعها في ألبوم خاص بنا، فالصورة التقليدية، سواء زمن الأبيض والأسود أو بالألوان، كانت توثق لمسيرة عمر، أما الآن فالصور الإلكترونية أصبحت توثق لمسيرة يوم أو مسيرة حدث فقط، وهنا الفرق بين الحالتين، والصور لها أهمية، لأنها ذاكرة لا تنسى ولا تُسقط تفاصيل قد تسقطها محاولاتنا التعبير عن أحوالنا بالكلام، وبالتالي الصورة تحكي قصة فعل السنين معنا حين تتبدل أحوالها وأشكالها وأدواتها مع تبدل عمرنا وأحوالنا، تظل شاهداً علينا، خالدة في قلوبنا، تحكي ما كان، وتحفر في النفس لنا ولمن بعدنا أنه ذات مرة كان هناك أشخاص هذه هي حكاياتهم وتلك آثارهم، ولم تكن الصورة يوماً إيقافاً للحظة لكنها حياة نتأملها.