سياقات وتصوّرات الانتخابات المبكرة في بريطانيا
ريا خوري
دعا (ريشي سوناك) رئيس الوزراء البريطاني في الثاني والعشرين من شهر أيار الماضي إلى انتخابات عامة مبكرة، في الرابع من شهر تموز القادم، لاختيار أعضاء مجلس العموم البالغ عددهم ستمئة وخمسين عضواً. وفي نظر المحللين السياسيين والباحثين الاستراتيجيين والمراقبين، يُعدّ قرار سوناك مفاجئاً ومقامرة محفوفة بالمزيد من المخاطر، لأنه هو وحزبه وحكومته في أسوأ حالاتهم، حيث أكّدت أحدث استطلاعات للرأي أنَّ درجة الرضا الشعبي العام عن أدائه بلغت ستة عشر بالمائة، وانخفضت شعبية حزب المحافظين إلى تسعة عشر بالمائة، وهما أدنى مستوى يحققه رئيس وزراء قائم على رأس عمله، وحزب حاكم منذ عام 1978.
في حقيقة الأمر، ومن خلال متابعتنا للعملية السياسية في بريطانيا، نجد أنَّ حزب المحافظين يعاني مشكلة في القيادة، حيث قام بتغيير قيادته أربع مرات خلال أربع سنوات، ومن سوء الأداء الانتخابي الذي جرى في السابق، حل ثالثاً بعد حزب العمال، والديمقراطيين الليبراليين، في الانتخابات المحلية التي جرت في شهر أيار الماضي، من دون الحديث عن حالة الوهن وضعف الثقة المتزايدة لدى الناخبين في أداء الحكومة البريطانية حيث عبّر أغلبية البريطانيين عن عدم رضاهم عن الطريقة التي تدير بها الحكومة البريطانية البلاد.
فما الأسباب التي جعلت سوناك يدعو إلى انتخابات مبكرة في ظل وجود عدد من المتغيرات الإيجابية التي تصبّ في مصلحة حزب المحافظين، وأهمّها نجاح تمرير خطة ترحيل المهاجرين إلى رواندا وبدء تحسّن الاقتصاد البريطاني؟. وفي رأي رئيس الحكومة، قد تسوء الأوضاع الاقتصادية خلال الأشهر القليلة القادمة، ومن غير المرجّح أن تتحسّن آفاق حزبه بين الحين والآخر، كما أنّ عنصر المفاجأة بالتصويت قد يصبّ في مصلحة حزب المحافظين، وعنصر الوقت يعمل لمصلحة خصمه (حزب العمال) المعارض الذي يُحسب على يسار الوسط في المملكة المتحدة، لتنظيم صفوفه، ودعم قواعده الشعبية.
وتجري الانتخابات المقبلة وفقاً لنظام الأغلبية النسبية، المعروف بــ(أوّل شيء في مكتب البريد) أي يحصل المرشح صاحب أكبر عدد من الأصوات في الدائرة الانتخابية التي تخصّه على المقعد البرلماني. وبعد إعلان نتائج الانتخابات، يُصبح زعيم الحزب الحائز أكبر عدد من مقاعد البرلمان البريطاني رئيساً للوزراء. وإذا لم يحصل أي حزب على أغلبية داخل البرلمان، عندها يصبح الحزب مُعلقاً إلى أنْ يتمكّن الحزب الأكبر من تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب آخر حقق مقاعد قريبة ممّا حققه حزب آخر، أو العمل كحكومة أقلية، معتمداً على أصوات الأحزاب الأخرى لتمرير أية قوانين وتشريعات ناظمة، وهي حالة نادرة الحدوث في بريطانيا، لم تتحقق سوى مرة واحدة مع حكومة ديفيد كاميرون الائتلافية التي جرت عام 2010، منذ عام 1945، حيث يتضمن النظام الانتخابي دعوة الناخبين البريطانيين، وعددهم ستة وأربعون مليون مواطن، لاختيار نائب عن المنطقة التي يعيشون فيها، ليصبح واحداً من ستمئة وخمسين نائباً برلمانياً.
وقد شهد النظام الانتخابي في المملكة المتحدة عدّة تغييرات عام 2022، أهمها وجود بطاقة هوية بصورة إلزامية للناخب البريطاني عند التصويت، وتجريم ظاهرة (التصويت العائلي)، وإلغاء شرط عدم أحقية التصويت للمقيمين في الخارج لأكثر من خمسة عشر عاماً، وعلى الناخبين أن يكونوا بالغين سن الثامنة عشرة، ولا يعدّ الاقتراع إلزامياً، ويُسمح بالانتخاب عبر المراسلة بعدة طرق منها البريد الإلكتروني أو عن طريق التكليف.
وينصّ العرف الدستوري على أن يشكّل الحكومة الحزب الذي يفوز بأغلبية مقاعد مجلس العموم البريطاني، وعادة تعيّن الملكة أو الملك فيما بعد رحيل الملكة أليزابيث رئيس الحزب الفائز رئيساً للوزراء، ثم يختار رئيس الوزراء أعضاء حكومته، ويقدّم لائحة بها إلى الملك. من جهتها تتقاسم الحكومة التي تضم ما بين ثمانية عشر إلى أربعة وعشرين عضواً الحقائب الوزارية المهمة، وتشكّل ما يُعرَف بــ(الحرس المقرَّب) من رئيس الوزراء.
من الواضح تماماً أنّ الوضع الاقتصادي يبقى من أولويات الحملات الانتخابية وأهم معالمه دخول المملكة المتحدة في حالة ركود اقتصادي منذ نهاية عام 2023، وتزايد أزمات الطاقة بشكلٍ كبير وارتفاع كلفة المعيشة للمواطن البريطاني، وزيادة معدّل التضخم النقدي، وتراجع معدلات الاستهلاك، وتدني المؤشرات الاقتصادية والمالية والتجارية بشكلٍ عام، وحالة الخدمات العامة في المملكة وخاصة الخدمات الصحية الضرورية.
وثمة قلق كبير، وفقاً للجنة المستقلة للانتخابات، من التأثير المتنامي للتهديد والحملات المضلّلة، والترهيب، ومن الأدوار المتصاعدة لشركات التكنولوجيا وخاصة التي تنتج مواد الذكاء الاصطناعي في توجيه الناخبين.
وهناك قضايا أخرى مهمّة في سياق الانتخابات، في مقدّمتها قضية الهجرة غير المشروعة، وما يتصل بها من القضايا، مثل أمن الحدود، وأوضاع المهاجرين والحرب الدائرة في أوكرانيا وقطاع غزة.
أما المتوقع من الانتخابات القادمة في شهر تموز 2024، فإنّ هناك ثلاثة سيناريوهات، أولها، وهو المرجح، عودة حزب العمال البريطاني للسلطة من جديد ولاسيما في ظل التراجع المتزايد لشعبية حزب المحافظين، وتدنّي مستوى أدائه ومستوى الثقة بحكومته، إضافةً إلى سخط الرأي العام البريطاني على المحافظين بسبب سلسلة من الفضائح والقضايا الخلافية وحجم المشكلات الاقتصادية المتفاقمة منذ عام 2016. ومن فرص (حزب العمال) الانتخابية أنّ رئيس الوزراء الحالي معزول إلى حدٍّ ما في حزبه، وإعلان سبعة وسبعين محافظاً عدم الترشح لإعادة انتخابهم من جديد.
ومن جهةٍ ثانية، يستند حزب العمال البريطاني إلى تفوّقه في الانتخابات المحلية قبل خمسة أسابيع على حزب المحافظين بأكثر من عشرين بالمائة من المقاعد، وبأكثر من عشرين نقطة في أحدث استطلاعات الرأي العام في المملكة. وثمة إمكانية لاستغلال الحزب بعض المقاعد من الحزب الوطني الاسكتلندي في اسكتلندا.
من جهة أخرى يمكننا معرفة اتجاه حزب المحافظين في الاستمرار في السلطة، وهذا يدلّ على أنّ مقامرة رئيس الحكومة سوف تنجح، وخاصة أن استطلاعات الرأي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنها متقلبة وغير ثابتة. ويستند هذا السياق إلى تحقيق حكومته بعض المكاسب الاقتصادية، منها التخفيف من أزمة كلفة المعيشة، وخفض معدل التضخم النقدي، ونموّ الاقتصاد بأسرع وتيرة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات. ويستند هذا الحزب إلى دعم الناخبين الأكبر سناً، أو المتقاعدين، والمؤيدين لليمين الشعبوي المتطرّف.
أما ما تراه الحكومة الائتلافية؛ فيعني حصول حزب العمال البريطاني على أكبر عدد من مقاعد البرلمان من دون الأغلبية المطلقة في البرلمان. وهذا يمكّنه من تشكيل ائتلاف حزبي لتأليف حكومة جديدة متوازنة بين حزب العمال، وأي من حزبي الديمقراطيين الليبراليين والخضر، أو تشكيل حكومة أقلية عُمالية يدعمها أي من الحزبين المذكورين أعلاه من خارجها. وفي حقيقة الأمر، استمرار صعود حزب الديمقراطيين الليبراليين على حساب حزب المحافظين البريطاني، وعدم توقّع تحقيق حزب العمال نتائج حاسمة، يجعل هذا السياق أكثر احتمالاً.