شفيق ديب.. يتجلى في الشعر الزجلي ولا يكتفي بالارتداء
علي الدندح
لعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في القصيدة التي يكتبها شفيق ديب خروجها المستمر على ما استقرّ من أعراف لغوية وتقاليد شعرية مؤسّسة بذلك أسلوبها المخصوص ونبرتها المتفردة، فقد تمكنت هذه القصيدة من توسيع معنى الشعر الزجلي، مستمدة شعريتها وشرعيتها من إيقاعها الخاص.. إنه يؤسسها ويتجلّى فيها ولا يكتفي بارتدائها، فاللغة تولد مع كل شاعر ولادة جديدة، والواقع أن الديب شفيق ما انفك يعقد من خلال قصائده حواراً مع الأسلاف، أنبياءً وشعراءً وكتاباً، يستدعيهم، ويصغي إليهم، ويسترفدهم، وهو بذلك يقتفي أثر تيار شعري يعدّ الشعر حواراً مع الذاكرة الإبداعية، مطلق الذاكرة الإبداعية.
تستسلم قصيدة شفيق إلى قارئها بيسر وسماحة، لأنها من القصائد التي تقتضي من القارئ التخلّي عن الفهم التقليدي للزجل، مع الحفاظ على الوزن العروضي المنضبط، كما تقتضي منه أن يبذل جهداً تأويلياً كبيراً حتى يستوعب رموزها، ويُدرك غامض أقنعتها، ولهذا السبب وجب على القارئ عقد حوار معها، والإصغاء إلى الأصوات التي تتقاطع داخلها.
إننا نُدعى في حضرة مدونّة الشاعر الزجال شفيق ديب إلى أن نستقبل القصيدة بوصفها أجراساً وإيقاعات ومصدر إيحاءات، أي إن الشعر هنا لا ينهض بوظيفة الإفصاح عن التجربة فحسب، وإنما يعمد إلى استجلاء الطاقات الكامنة في اللغة، ودفعها إلى أقصى ممكناتها، وتجديد فعل الخلق الإبداعي باستمرار، لكنه لا يكتفي بالإشارة إلى “مالارميه” فحسب، بل يشير إلى عدد كبير من الكتّاب والشعراء يستهدي بهم في ليل الكتابة، ولا يكتفي شفيق الشاعر باستدعاء الشاعر، بل يستدعي لغته وصوره بحيث يتداخل الصوتان، صوت الشاعر وصوت الشخصية المستدعاة، تداخل التسوية والتشابك.
لم يطمئن شفيق في كلّ أمسياته ولقاءاته للغة واحدة يسترفدها، بل كان دائم القلق والتساؤل، يبحث عن لغة مختلفة تقول تجربته وتفصح عن غائر مشاعره، وهذا القلق وذلك التساؤل هما اللذان جعلا قصيدته متحولة ومتغيّرة، وتسعى باستمرار إلى البحث عن ذرى شعرية وجمالية جديدة، فقصيدته لا تتجلى على هيئة واحدة مرتين، بل كل تجلٍّ يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بجديدة، لهذا تعدّ كل أمسية أو لقاء أو حوار هو بمنزلة خطوة جديدة في طريق القصيدة التي يحلم بكتابتها، فشفيق الشاعر ظلّ يطور قصيدته باستمرار، يعيد النظر فيها، يشحنها بأسئلة جديدة، ولا غرابة في ذلك بما أن القصيدة رديفة الحياة، ومثل الحياة تفزع القصيدة من التكرار، فالتكرار يقتل اللغة، يبدّد قدرتها المبدعة، ويحول القصيدة إلى ركام من الرماد.