التعاليل الشعرية.. إعطاء الأسباب بطرافة وإبداع
غالية خوجة
ما معنى التعليل الشعري؟ ومتى وكيف يكون فناً؟ وماذا بين الشعر والشاعر والعلم والفنون واللغات؟.
أجاب عن أكثر من هذه الأسئلة الأديب الدكتور عيسى العاكوب في محاضرته “قراءات في فن حسن التعليل في الشعر العربي القديم”، التي نظمها النادي العربي الفلسطيني في مقرّه، بالتعاون مع اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، وأدارها الشاعر محمود علي السعيد.
وابتدأ العاكوب بتعريف معاني كلمات الشعر والشاعر والقصيدة عند العرب القدماء، مقارناً تلك المعاني بين اللغتين العربية والإنكليزية، فكلمة “الشعر” عند العرب معناها العلم، وكلمة “الشاعر” عندهم معناها العالم، وعند الإنكليز هو الإنسان صانع الأشياء الذي يأتي بتصورات لا يأتي بها آخرون.
وبذاكرة استرجاعية، استعاد المحاضر ماهية الشعر في النقد الأدبي الأوربي، وفي زمن أفلاطون وأرسطو، قائلاً: “كل من يبدع عملاً فنياً هو شاعر”، سواء في الكتابة أم الموسيقا أم الرسم أم الصناعة، وذلك انطلاقاً من فنيات الأحاسيس ووسائل التعبير عنها بطريقة إبداعية.
واسترسل: “مع مرور الزمان، اتخذ معنى كلمة الشاعر مفهوماً مخصّصاً أكثر، فصار يدلّ كل من يبدع العمل الفني بطريقة الكلام المنظوم، وتمّ تخصيص كلمة “شعر” للإبداع في اللغة والكلام”.
وفي المقابل، كان معنى كلمة “الشاعر” في أوروبا، ومنذ العصور القديمة، يدلّ على الإنسان المدرك لحقائق العالم إدراكاً فطناً يعبّر عنه بالكلام المنمّق البليغ الذي يسمو على مستوى الكلام العادي، بينما كان الاعتقاد السائد في الحضارة الرومانية أن الشاعر هو كاهن يعلم الغيب، وما الشعر إلاّ إلهام.
لكن، ماذا عن “المثقف” و”الثقافة”؟ هنا، أكد الدكتور عيسى العاكوب أن الثقافة ضرورية جداً مثل الهواء والماء، وأن الإنسان افتقد الخير وحرم أجمل ما في العقل البشري حين ابتعد عن فهم معاني اللغة العربية والتعمّق فيها ودراستها، ولفت إلى فصاحة بنو قريش وأهل المدينة قديماً الذين غيّروا العالم بسبب فهمهم للغة العربية ومعانيها وبنيتها بشكل عام.
وعن فن حسن التعليل، قال: “إنها طريقة شعرية طريفة بعض الشيء، ومعنى التعليل الشعري هو إعطاء سبب لأمر غير حقيقي، لكنه طريف، ويقبله الإنسان لكون الشعر فنّ كلامي يمتلك من أدوات التأثير والخلابة في النفس لدرجة أن السامع يصاب بالخدر ويوشك أن يصدق البيان الشعري حتى ولو كان غير صحيح، ولذلك أسباب عديدة، منها أن الشعر يجذب الإنسان إلى التخييل بإيهامه بأمر غير موجود في الحقيقة، وأن لغة الشعر بعباراتها المنظومة وكلماتها المنتقاة ووزنها الموسيقي تترك أثرها وسلطانها على نفس الإنسان فيُخيل إليه أن الأمر صحيح، ولذلك، اختلفت العرب في ما هو خير الشعر: أعذبه أم أكذبه؟”.
وأضاف: “هذا ما لمسه العلامة عبد القاهر الجرجاني في التعليل الشعري وأثره التخييلي الناتج عن قدرة الشاعر في إثبات أمر غير ثابت أصلاً، فيقول قولاً يخدع به نفسه ويريه ما لا يرى، مثل قول شاعر عربي قديم أراد أن يهجو القمر: “يا سارق الأنوار من شمس الضحى، يا مثكلي طيب الكرى ومنغص، أما ضياء الشمس فيك ناقص، وأرى حرارة نارها لم تنقص، لم يظفر التشبيه منك بطائل متسلق بهقاً كلون الأبرص”.
واختتم العاكوب: “عندما يتقنُ الإنسان اللغة، ويحفظ عن ظهر قلب نماذج لغوية عالية، يصبح الإبداع عليه سهلاً، مثل ابن المقفع، وحسان بن ثابت، كما أن التعليلات الشعرية فن جميل من الشعر العربي القديم، وللأجيال الجديدة أن تحفظه حتى تزداد لغتهم المعرفية وخبرتهم الفنية”.