دولة لليهود والحوامل الأربعة
قبل انعقاد مؤتمر بال في سويسرا سنة 1897 كانت الفكرة الرائجة في أوروبا البحث عن حل لما سمّي المسألة اليهودية، والمقصود بها التخلص من اليهود في أوروبا، وما سبّبوه من مشكلات فيها لجهة عدم اندماجهم في مجتمعاتهم، وأنهم أصبحوا مشكلة أوروبية وليس مشكلة يهودية، والدفع بهم إلى بلدان أخرى خارج أوروبا والتخلص من مشكلة وتصديرها إلى بلد آخر. وجاء كتاب تيودور هرتزل الذي يعدّ المؤسس للحركة الصهيونية والمنظّر لها، وعنوانه الدقيق دولة لليهود وليس الدولة اليهودية، حيث يقترح حلاً للمشكلة اليهودية من خلال تجميع اليهود في بلد واحد، واقترحت عدة بلدان لتكون ذلك البلد المأمول منها الأرجنتين وأوغندا وقبرص وجزيرة القرم، وقد اقترح الأميركان على ستالين قبل قيام الكيان في فلسطين أن تكون القرم دولة لليهود، فلما عرض الموضوع في مجلس السوفييت الأعلى تمت معارضته من الأكثرية، فتم الاتفاق على أن تكون القرم تابعة لأوكرانيا للتخلص من الضغط الأميركي، وبالفعل تم ضمّ القرم لأوكرانيا عندما كانت جزءاً من الإمبراطورية السوفييتية، ولا سيما أن خروتشوف كان من أصول أوكرانية. وبالعودة إلى المؤتمر الصهيوني الأول 1897، فقد شهد نقاشاً حول تحديد الوطن المقترح لليهود، حيث تم الاتفاق على فلسطين لتكون (الوطن) أو الدولة القومية للشعب اليهودي بضغط من التيار الديني الذي كان في أغلبيته من اليهود الروس والبولونيين وهم الأكثرية، وكان ذلك هو قرار المؤتمر الصهيوني الأول، وكلّف هرتزل بمتابعة تنفيذه بعد وضع آلية مديدة لتحقيق ذلك الحلم.
إذن ثمة عناصر يجب الوقوف عندها في تفسير الحالة الصهيونية، أولها مركزية الدين في المشروع الصهيوني، وثانيها أن ثمّة مشكلة أوروبية مع اليهود وعدم اندماجهم وقبولهم في المجتمعات الأوروبية وسعي الأوروبيين إلى التخلص من هذه المشكلة بإيجاد وطن لليهود يتجمّعون ويعيشون فيه، وثالث تلك العناصر المصالح المشتركة بين اليهود والغرب، حيث إن وجود اليهود في فلسطين يحقق مصالح استعمارية للغربيين ويكون رأس حربة لهم في المنطقة وعامل تقسيم واستنزاف لها، أما العنصر الرابع فهو أن المشروع الاستعماري كان دائماً بحاجة إلى رافعة قوية له يرتكز عليها في قيامه واستمراره (قوة الحامل)، وكانت منذ ذلك التاريخ بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية في العصر الحاضر إلى جانب امتلاكه قوة ردع عسكرية نوعية حرص على امتلاكها إلى جانب قوة الحامل. وبالعودة للعناصر يمكننا القول: إن القاعدة الواسعة للمشروع الصهيوني هي الجماهير المتدينة على الرغم من أن قيادات الكيان الصهيوني منذ استزراعه حتى وقت قريب كانت علمانية، والدليل على ذلك ما جاء على لسان أحد أهم قادة الحرب في عدوان حزيران بعد احتلال جزيرة سيناء سنة 1967، وهو إيغال آلون، حيث قال: علينا أن نعيد الوصايا العشر للرب لأنها لم تنفعنا، وكانت البندقية المقاتلة أفضل منها، أما الحوامل البريطانية والأميركية فهي واضحة من وعد بلفور إلى الانتداب البريطاني على فلسطين الذي شكّل حاضنة لها، ومن ثم الولادة والرعاية الأمريكية. وعن العلاقة بين الغرب والكيان الصهيوني التي وردت على لسان وزير خارجية بريطانيا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية عندما سئل عن عواقب إقامة وطن لليهود في فلسطين بردّة فعل العرب، حيث قال: هذه رئة تتنفس منها الإمبراطورية البريطانية؟.
والحال أننا أمام مشروع صهيوني له حوامله وأهدافه ووظيفته ومواجهته تحتاج إلى وعي لبنيته وعناصر قوّته وضعفه والاشتغال عليها، ولعل معركة غزة أثبتت أننا أمام كيان قابل للهزيمة وانكشف وتعرّى على حقيقته ولم يعُد بإمكانه استعادة الصورة والمسار اللذين تشكّلا خلال أكثر من سبعة عقود ونيف، فما قبل السابع من تشرين الأول 2023 ليس كما بعده، إذا تمّت قراءته بشكل استراتيجي تراكمي، ما يجعلنا أكثر تفاؤلاً بالنصر ونهاية أسطورة ذلك الكيان الذي يشبه صنماً تحطم.
د. خلف المفتاح