على شفير الهاوية.. هل تتمكّن واشنطن من الاستمرار في استفزاز موسكو دون عقاب؟
طلال ياسر الزعبي
لا شك أن الاستفزاز الأمريكي لروسيا على الجبهة الأوكرانية بلغ مرحلة متقدّمة جداً، فالإدارة الأمريكية لم تكتفِ بالدعم العلني للنظام النازي في أوكرانيا بالمال والسلاح والعتاد والاتصالات والأقمار الصناعية، بل تجاوزت ذلك مؤخراً بمنح نظام كييف أسلحة صاروخية لا يمكن استخدامها إلا من خلال توجيهها عبر الأقمار الصناعية الأمريكية، وهذا يعني اشتراك الاستخبارات الأمريكية مباشرة في التخطيط واختيار الأهداف ومتابعتها وصولاً إلى استهدافها، بمعنى أن واشنطن تجاوزت كل الخطوط الحمر الروسية في هذا الإطار، ما استدعى اتهاماً روسياً مباشراً لواشنطن بالضلوع في استهداف شبه جزيرة القرم الأخير الذي أدّى إلى سقوط ضحايا من المدنيين.
التحذيرات الروسية المتتالية للغرب الجماعي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، من وصول الصراع إلى مرحلة متطوّرة يمكن أن تقود إلى حرب نووية، أخذتها واشنطن هذه المرة على محمل الجدّ، وخاصة مع وصول القطع الحربية الروسية إلى موانئ كوبا، وذلك في إعادة للمشهد الذي كان قائماً في ستينيات القرن الماضي، حيث أوشك الصراع أن يدخل مرحلة التصادم المباشر بين القوّتين النوويتين، فيما عُرف آنذاك بأزمة الصواريخ الكوبية التي اندلعت في عام 1962 وزادت من شدّة الحرب الباردة التي كانت دائرة حينها بين المعسكرين، وتمثلت في نشر الاتحاد السوفييتي في عملية سرية، صواريخ باليستية برؤوس نووية على الأراضي الكوبية رداً على نشر الولايات المتحدة في عام 1961، 15 صاروخاً نووياً من طراز “جوبيتر” في تركيا.
وقد وجّهت الخارجية الروسية اتهاماً مباشراً لواشنطن بالضلوع في هجوم كييف الإرهابي على سيفاستوبول الروسية بصواريخ أمريكية، مؤكدة أن روسيا لن تترك هذه الجريمة دون ردّ، ومشيرة في بيان إلى أن الهجوم جاء متزامناً مع أحد أهم الأعياد الأرثوذكسية الروسية، واستهدف المدينة بصواريخ “أتاكامس” الأمريكية المجهزة برؤوس عنقودية لزيادة قدرتها التدميرية، وأن وجهة الصواريخ وإحداثيات أهدافها تم تحديدها من الأمريكيين عبر الأقمار الصناعية، وكانت طائرة استطلاع أمريكية “غلوبال هوك” تحلّق قرب أجواء القرم الروسية.
وقد اعترف المرشح المستقل للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة روبرت كينيدي جونيور بأن قصف شاطئ سيفاستوبول بصواريخ أمريكية هو عمل إرهابي وإجراء عسكري من واشنطن ضد المدنيين الروس.
ويبدو أن واشنطن فعّلت الهاتف الأحمر الذي يربط بينها وبين موسكو على خلفية التهديدات الروسية الأخيرة، إذ بادر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى الاتصال هاتفياً بنظيره الروسي أندريه بيلاوسوف لتخفيف حدّة التوتر بين البلدين، بينما أبلغه بيلاوسوف بخطورة تصعيد الوضع في أوكرانيا بسبب تزويد واشنطن نظام كييف بالأسلحة.
هذا التوتر انعكس على جميع البلدان المتاخمة لأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، حيث دعت بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا الاتحاد الأوروبي إلى تخصيص أموال لبناء خط دفاع بطول 700 كيلومتر على الحدود مع روسيا وبيلاروس، الأمر الذي يؤكّد أن هناك حديثاً متزايداً في الغرب عن احتمال نشوب حرب مع روسيا، وهذا ما تؤكّده التقارير التي تتحدّث عن استعداد بولندا للتصعيد ضد روسيا، إذ اقترح وزير الدفاع البولندي السابق ماريوس بلاشّاك زرع الألغام على الحدود مع منطقة كالينينغراد الروسية، مطالباً سلطات بلاده بالانسحاب من اتفاقية أوتاوا التي تحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، حيث إن التدريبات الأخيرة لحلف شمال الأطلسي بالقرب من منطقة كالينينغراد تشير إلى الطبيعة العدوانية للدول الغربية واستعداد بولندا للعدوان على روسيا، بما في ذلك حصار منطقة كالينينغراد، وهذا يعني جعل بحر البلطيق بحراً داخلياً لحلف شمال الأطلسي، حسب الخبير العسكري الروسي المقدم البحري الاحتياطي أوليغ إيفانيكوف الذي أشار إلى أن الانسحاب من اتفاقية أوتاوا لن يكون قراراً مستقلاً للحكومة البولندية، فبعد انضمام بولندا إلى حلف شمال الأطلسي، فقدت استقلالها، وقرارها أصبح في واشنطن، ومثل هذا الأمر لم يُعبّر إلا عن التهديدات الأميركية ضد منطقة كالينينغراد.
المهم في الأمر أن هناك استعداداتٍ غير عادية تجري في دول حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وخاصة الأوروبية منها لإمكانية اندلاع حرب مع روسيا في أقرب وقت ممكن، الأمر الذي يؤكّد قناعة هذه الدول بحتمية هزيمة أوكرانيا في الحرب الدائرة حالياً مع روسيا من جهة، والخوف الشديد لدى هذه الدول الأوروبية من قيام روسيا بغزو أوروبا مستفيدة من نشوة الانتصار على أوكرانيا، حسب التغذية الراجعة أو التحريض القادم من غرب الأطلسي.
وأيّاً يكن من أمر هذه الاستعدادات، فالواضح أن موسكو تستعدّ لجميع لاحتمالات بما فيها التصادم النووي مع الغرب، ومن هنا قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إن التهديدات ضد روسيا يجب أن تُؤخذ على محمل الجدّ، ولا بدّ من التخطيط لردود مناسبة، وتعزيز القوات المسلحة والبحرية للبلاد، في الوقت الذي أكد فيه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أن موسكو لا تستبعدّ رداً عسكرياً تقنياً على الولايات المتحدة بعد اعتداء قوات كييف بصواريخ عنقودية أمريكية على القرم مؤخراً، مشدّداً على ضرورة الحفاظ على الاتصالات بين وزيري الدفاع في البلدين لتحذير الولايات المتحدة من العواقب الثقيلة لنهج واشنطن تجاه أوكرانيا.
وفي المحصلة تدرك واشنطن أن رغبتها في إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا باتت في مهبّ الريح بعد هزيمة الأطلسي فعلياً أمام روسيا في الحرب الدائرة هناك بالوكالة، حيث أطلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رصاصة الرحمة على هذه الرغبة بتأكيده أن النخبة الأمريكية تؤمن بـ”الاستثناء الأمريكي” بشكل أعمى، وأن رغبة إدارة جو بايدن في إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا محكومة بالفشل، مشدّداً على أن سعي عدد من الدول في الماضي لضمان الهيمنة العسكرية والسياسية انتهى بالبكاء بالنسبة لها، وأن روسيا مهتمة فقط بضمان ألّا تأتي التهديدات لأمنها من الاتجاه الغربي، وهي تخطط لإعادة تجميع صيغة “روسيا – الهند – الصين”، وعلى الأمم المتحدة أن تتكيّف مع التعددية القطبية، رغم الهيمنة الغربية هناك، فـ”حتى لو ظلت الولايات المتحدة في المستقبل المنظور أحد مراكز العالم، وهذا ما قد يحدث على الأرجح، فهذا لا يعني على الإطلاق أن ذلك سيتحقق في إطار الحفاظ على نظام عالمي يتمحور حول أمريكا”.
وفي المحصّلة، يبدو أن سياسة حافة الهاوية التي تمارسها الولايات المتحدة والغرب الجماعي مع روسيا لن تجدي نفعاً لأن موسكو تتعامل مع التحرّكات الغربية بحذر، وهي تستطيع إلى الآن مجاراة الغرب في استفزازاته، حتى لو اضطرّت لاحقاً للوصول إلى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية، أو دعم أطراف ثالثة في العالم عسكرياً في حربها مع واشنطن، ردّاً على إصرار واشنطن على تهديد الأمن القومي الروسي عبر أوكرانيا.