ماكرون يلخص عيوب النظام
علي اليوسف
بعد أن غابت عن فرنسا الدولة “العظمى” الحكمة وبراعة الدبلوماسية، وقادتها ذهنية قاصرة حوّلتها إلى دولة تابعة تشبه عبيد “مستعمراتها”، لم يعد هناك مكان للحديث عن ادعاءات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية. فتراكم أخطاء فرنسا أنها أنجبت رؤساء تقاسموا فخر إضاعة هيبتها، وأثبتوا عدم قدرتهم على فهم المرحلة والمتغيرات الدولية واستيعابها، وتصرفوا على أساس الماضي وأنها لا تزال الدولة العظمى.
هذه الذهنية أوقعتها في أخطاء إستراتيجية لم تحسب لها حساب، إذ استغلت الحرب على سورية، ودعمت الإرهابيين، التكفيريين والانفصاليين، وموّلت وسلّحت كل أشكال وصنوف الجماعات المسلحة، ولم يُخف وزير خارجيّتها السابق جان ماك إيرولت إعجابه بما تقوم به “الخوذ البيضاء – تنظيم جبهة النصرة” في سورية، وعاثت أجهزة استخباراتها فساداً في الجنوب السوري، وشاركت بتطبيق الحصار الأميركي الجائر على سورية. كذلك، منذ العام 2011 قدَّمت عشرات مشاريع القرارات ضد الدولة والشعب السوريين، وحملت على كتفها ملف السلاح الكيماوي المزيّف والمزور، وتجرأت على رسم الخطوط الحمراء لدمشق.
اليوم تشهد فرنسا انتخابات برلمانية مبكرة، حيث ستكون العواقب دراماتيكية على مستقبل الجمهورية الخامسة برمته كنظام سياسي، إذ لن ينتظر ماكرون طويلاً ليحصد نتيجة مقامرته الانفعاليّة – حلّ البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة – فالعارفون بشخصية ماكرون يشككون بقدرة الرئيس على تحمّل وعورة النفق الذي أدخل فرنسا فيه، بل هناك من يرى أنه سيرمي بأوراق اللعبة ويستقيل من منصبه، ويدعو إلى انتخابات رئاسيّة مبكرة لا يمكنه شخصياً الترشح إليها!.
كانت خطوة ماكرون غير متوقعة، حتى في صفوف معسكره، لكنها كشفت عن ضعف “الماكرونية” وتراجع شعبيتها لصالح أقصى اليسار وأقصى اليمين، في تأكيد على وهم النظرية التي قامت عليها “الماكرونية”، التي ادعت أن السياسة لا تحتاج أحزاب عقائدية بقدر ما تبحث عن “التكنوقراط” القادمين من عوالم التقنية والمصارف وصناديق الاستثمار. وهميّة هذه التصورات أكدتها ضربة الانتخابات الأخيرة والتي جعلت الرئيس الفرنسي ومعسكره يدرك أن الجمهور ليس مجرد أفراد يجمعهم الاستهلاك وتفرقهم المصالح الشخصية، بل طبقات ذات نزوع جماعي واعٍ بنفسه، في ظل واقع جيوسياسي أوروبي وعالمي يتجه بالضد من مصالح فرنسا التي ما زالت تحتفظ ببقايا نزعات إمبرالية وتخسر كل يوم من مواقعها لصالح قوى أخرى.
ربما اللحظة التي تعيشها “الماكرونية” قد تكون تلخيصا لنهاية حقبة كاملة، نهاية فرنسا كدولة عظمى، ونهاية الجمهورية الخامسة كصيغة سياسية لهذه الدولة، خاصةً أنه منذ نشأتها بدت الماكرونية مشروعاً سياسياً متأرجحاً، فمنذ السنوات الأولى واجه حكم ماكرون انتفاضة السترات الصفراء، وإضرابات عمال السكك الحديدية، ثم الغرق في إدارة كارثية لجائحة كورونا، وأخيراً كان قانون المعاشات التقاعدية، الذي واجهته النقابات وقطاعات واسعة من الشعب بمعارضة شديدة ومظاهرات واسعة ورفضه نواب البرلمان، فقرر ماكرون تمريره بالقوة داخل الجمعية الوطنية.
في كل محطة من هذه المحطات، كانت “الماكرونية” تخسر جزءاً من قاعدتها الانتخابية، وكان ماكرون يتحول إلى رئيس تتلخص في شخصه كل عيوب النظام ومساوئه، فرفض الفرنسيين لماكرون يتجاوز مسألة وظيفته أو سياسته أو فشل ولايته الثانية، بل له بُعد شخصي، حتى أن شخصيته باتت تثير غضب الفرنسيين.