صعود القوى اليمينية المتطرّفة في أوروبا والمستقبل
ريا خوري
بعد مخاضٍ سياسي طويل في أوروبا تمكّنت العديد من أحزاب اليمين المتطرف من تحقيق حضورها السياسي في العديد من دول أوروبا بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي جرت قبل أيام في دول الاتحاد الأوروبي.
وكانت نتائج الانتخابات قد أصابت العديد من كبار القادة والسياسيين الأوروبيين بالصدمة، حيث حدث ما كانت تخشاه دول الاتحاد الأوروبي الـ٢٧، لأن أحزاب اليمين واليمين الشعبوي المتطرّف حققت مكاسب كبيرة في الانتخابات التي جرت لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي الـ720، إذ حلّت بالمركز الأول في فرنسا وإيطاليا والنمسا، وحلّت ثانية في ألمانيا الاتحادية وهولندا، لكن من دون الحصول على الأغلبية في البرلمان، إلّا أنّ هذا التقدم لأحزاب اليمين المتطرّف ترك حالةً من عدم اليقين بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي في المجال السياسي، إذ بات من الصعب على الدول الأوروبية تمرير التشريعات والقوانين الناظمة واتخاذ القرارات الاستراتيجية المهمة.
لقد كان وقع نتائج هذه الانتخابات بمنزلة زلزال سياسي هزّ أركان فرنسا، إذ أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلّ البرلمان الفرنسي على الفور والدعوة لانتخابات تشريعية على جولتين في 30 حزيران و7 تموز، في خطوة مفاجئة محفوفة بالمخاطر الكبيرة حول النتائج المتوقعة، وخاصة بعدما حصل حزب “التجمع الوطني” اليميني الذي أسّسه جان ماري لوبان عام ١٩٧١م وتتزعمه حالياً مارين لوبان، على واحد وثلاثين ونصف بالمائة من الأصوات، بينما سجّل حزب ماكرون “النهضة” انتكاسة انتخابية كبيرة بحصوله على نحو 15.2% من الأصوات فقط. وكان ماكرون قد غيّر اسم الحزب من حزب (الجمهورية إلى الأمام) إلى حزب (النهضة) لعدة أسباب. وقد اعترف بهزيمة حزبه المريرة في خطاب عبر التلفزيون الفرنسي الرسمي قائلاُ: إنّ “نتائج الانتخابات الأوروبية لم تكن مرضية للأحزاب التي تدافع عن أوروبا بما في ذلك حزبنا.. إن أحزاب اليمين تتقدّم في فرنسا بشكلٍ كبير ومتسارع”، وحذّر من صعود الديماغوجيين والقوميات العنصرية المتطرّفة لأنّ ذلك يشكّل “خطراً جسيماً على أمتنا وأيضاً على أوروبا وعلى مكانة فرنسا في أوروبا والعالم أجمع”.
لقد بدا ماكرون ضعيفاً وقلقاً، وحاول مراراً أن يخرج من انتكاسته وانتكاسة حزبه من خلال العبارات التي قالها للمواطنين الفرنسيين والأوروبيين وهو مضطرب
“إن رسالتكم وصلت، لن أترك مشكلاتكم وقلقكم من دون أجوبة.. أنا واثق في ديمقراطيتنا، لنعطي الكلمة للشعب الفرنسي”.
من جهته حقق حزب التجمع الوطني اليميني الشعبوي المتطرّف أفضل نتيجة في انتخابات وطنية، وقال رئيسه جوردان بارديلا: إن نتائج الانتخابات هي (نتيجة تاريخية)، بينما قالت زعيمة اليمين الشعبوي المتطرّف مارين لوبان: “نحن على أتم الاستعداد لممارسة السلطة وفرض النفوذ إذا منحنا الفرنسيون ثقتهم”، مؤكّدة أن حزبها مستعدّ لإنهاء الهجرة الجماعية إلى فرنسا، وإعطاء الأولوية للقدرة الشرائية، وأنهم مستعدون لإعادة فرنسا إلى الحياة مرة أخرى. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كتبت زعيمة الحزب على منصة (إكس): من خلال وضع قائمة التجمّع الوطني على مستوى المسؤولية التاريخية، أرسل الشعب الفرنسي رسالة واضحة وصريحة للغاية إلى السلطة الماكرونية التي تتفكّك تصويتاً تلو الآخر، إنهم لم يعودوا يريدون بناءً أوروبياً تكنوقراطياً فوق الأرض الفرنسية خاصة والأوروبية بشكلٍ عام، في إشارة صريحة لرفضها هيكل الاتحاد الأوروبي القائم حالياً.
هذا يدل دلالة قاطعة على أنّ ماكرون سوف يواجه أواخر الشهر الحالي امتحاناً صعباً في مواجهة اليمين الشعبوي المتطرّف الذي سوف يغيّر وجه الجمهورية الفرنسية في حال فوزه بالانتخابات العامة وسيطرته على الجمعية الوطنية (البرلمان). في هذا السياق يبدو أنه من الواضح أن ماكرون يأمل بأن يتمكّن حزبه (النهضة) والأحزاب الأخرى من خوض معركة انتخابية يحقق فيها نتائج أفضل من السابق لمنع وصول قوى اليمين الشعبوي المتطرّف إلى سدة الحكم.
صحيح أن اليمين الشعبوي المتطرف لم يحقق الأغلبية ولم يحقق الكثير من المقاعد في البرلمان الأوروبي، لكنه أضاف إلى رصيده مقاعد جديدة يمكن أن تعيق معظم التشريعات والقوانين والقرارات التي على البرلمان الأوروبي اتخاذها، مثل الموقف من الحرب الدائرة في أوكرانيا، والهجرة، والسياسة الزراعية، والمناخ. ووفقاً للنتائج الحالية الأخيرة فإن حزب الاشتراكيين الديمقراطيين والحزب الشعبي الأوروبي وحزب (تجديد أوروبا)، وهي أحزاب مؤيّدة للاتحاد الأوروبي ولسياساته العامة، لديها ثلاثمائة وثمانية وتسعون مقعداً من أصل سبعمائة وعشرين مقعداً، وهي أغلبية أقل مما كانت عليه في البرلمان السابق المنتهية ولايته.
هذا المخاض السياسي الذي استمرّ سنوات والذي أدّى إلى تلك النتائج دفع المئات من المواطنين الأوروبيين إلى التظاهر أمام مقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، احتجاجاً على تلك النتائج، ومن هناك انطلقت دعوة للأوروبيين إلى الوحدة والكفاح ضد اليمين الشعبوي المتطرف.
لذا فإن التساؤلات بدت مشروعة حول بنية الوعي الأوروبي الذي يستشعر بشكل عملي المخاطر المحدقة بأوروبا ومستقبلها نتيجة صعود اليمين المتطرف.