هل تعيد أوروبا التفكير في الاتباع الأعمى للعم سام؟
عناية ناصر
أظهر اعتماد الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة واصطفافه معها منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية اتجاهاً تصاعدياً بسبب التغيّرات في البيئة الجيوسياسية. ومع ذلك، هناك دلائل ظهرت مؤخراً تشير إلى أن بعض الدول الأوروبية تنخرط في درجة من التفكير ومراجعة السياسات فيما يتعلق بـ”الاتباع الأعمى للولايات المتحدة” في مختلف السياسات.
وفيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية داخل القارة، تعمل فرنسا وألمانيا على تعزيز توافقهما في الدفاع المشترك عن المصالح الأوروبية، فخلال الزيارة التي قام بها إلى ألمانيا في أيار الماضي، نشر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى جانب المستشار الألماني أولاف شولتز، مقالاً بعنوان “يجب علينا تعزيز السيادة الأوروبية”، اقترحا فيه تعميق التعاون داخل الاتحاد الأوروبي وتعزيز “السيادة الأوروبية” في المجالات الاقتصادية والصناعية من خلال تحسين القدرة التنافسية الاقتصادية، وبالتالي ضخّ القوة في استجابة الاتحاد الأوروبي للتحولات الجيوسياسية. بالإضافة إلى ذلك، اتخذت بعض الدول الأوروبية خياراتٍ مستقلة فيما يتعلق بفلسطين، فعلى سبيل المثال، أعلنت النرويج وإسبانيا وإيرلندا على التوالي اعترافها بالدولة الفلسطينية. ويظهر هذا القرار الذي اتخذته الدول الثلاث أن المزيد من الدول الأوروبية تحوّل من تفضيل “إسرائيل” في صراع غزة إلى “حل الدولتين” الفعّال. ويشير الحدثان إلى أن المزيد من الدول والأشخاص ذوي البصيرة في أوروبا يدركون أن السياسات الداخلية والخارجية لأوروبا يجب أن ترتكز بقوة على مصالحها المعقولة والمشروعة، فضلاً عن العدالة والإنصاف الدوليين. وآنذاك فقط يصبح بوسع المجتمع الدولي أن يعترف بنفوذ أوروبا الدولي و”قوتها المعيارية” على نطاق واسع، وأن يتكيّف بشكل أفضل مع تغيّرات العصر والاتجاه نحو التعددية القطبية.
في الحقيقة، إن تأمل أوروبا في اتباع استراتيجية الولايات المتحدة المهيمنة على نحو أعمى هو نتيجة لتجربتها المؤلمة وتأملها العقلاني. منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا لفترة طويلة جزءاً مهمّاً من نظام التحالف الأمريكي، كما أنها كانت أيضاً “ساحة معركة” مهمّة في الحرب الباردة، ونمط “الأمن المعتمد على الولايات المتحدة” الذي تشكّل على مدى عقود من الزمن جعل أوروبا، إلى حدّ ما، تدفع ثمناً باهظاً.
على سبيل المثال، يتعيّن على أوروبا أن تتحمّل العواقب عندما تقوم الولايات المتحدة بتكثيف الصراعات الجيوسياسية في أوراسيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى، كما أنها تضطرّ إلى التورّط في هذه الصراعات. وفي الوقت نفسه، استخدمت واشنطن نفوذ التحالفات الأمنية لإجبار أوروبا على التعاون معها في احتواء المعارضين الجيوسياسيين في المجالات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية وغيرها، وهذا أيضاً يجعل من الصعب على أوروبا أن تحمي مصالحها الخاصة.
لقد جعلت صدمة ترامب أوروبا تعترف بأن الولايات المتحدة ضحّت دون خجل وخانت مصالح حلفائها من أجل تحقيق رؤية سياسة “أمريكا أولاً”. وقد أعطى هذا أيضاً زخماً قوياً لمفهوم السيادة الأوروبية، الذي طرحه بعض الأوروبيين المتبصّرين، بما في ذلك ماكرون.
منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة عادت إلى الخطاب القائل إن “الحلفاء هم أعظم الأصول” عندما وصل الحزب الديمقراطي إلى السلطة، إلا أن جوهر اتخاذ أوروبا نقطة انطلاق لهيمنتها لم يتغيّر بالنسبة لواشنطن. فمن تأجيج لهيب الأزمة الأوكرانية وتحقيق الأرباح من الحرب، إلى تنفيذ قانون خفض التضخّم الذي ينهب بشكل مباشر أو غير مباشر الصناعات والوظائف الأوروبية، عانى الاتحاد الأوروبي الذي ظل يهتف “الوحدة الأوروبية الأمريكية” من العديد من العواقب المريرة.
وبالنظر إلى المستقبل، قد يواجه الاتحاد الأوروبي تأثير سياسة “أمريكا أولاً” مرة أخرى بسبب الانتخابات الأمريكية المقبلة. ومع ذلك، أدركت أنها لن تتمكّن من الخروج من الحلقة المفرغة المتمثلة في كونها مخلب قط بالنسبة للولايات المتحدة، إلا من خلال تعزيز قوّتها وحماية مصالحها بكل حزم.
ومع ذلك فإن “استقلالية اتخاذ القرار” التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي مقيّدة بعوامل مختلفة. ففي سياق الأزمة الأوكرانية المستمرة، لا تزال بعض الدول والشعوب الأوروبية تنظر إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو باعتبارهما “حجر زاوية لا يتزعزع”، كما أنه لا يزال أمام الاتحاد الأوروبي طريق طويل لتطوير قوته العسكرية المستقلة. ولذلك، فإن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا لا يزال يواجه صعوباتٍ مختلفة، ومن المتوقع أن تسعى القارة تدريجياً إلى مزيد من الاستقلال في صنع القرار على مراحل من وقت لآخر.