التاريخ المعلم الأول
يحمل التاريخ قصة الإنسان والإنسانية من ألفها إلى يائها، وهو رحلة عبر زمن مفتوح تحمل كل ما أنجزته البشرية عبر ذلك المسار، وإذا كان التاريخ يضمّ ويحمل كل الأشياء التي أنتجها البشر في الماضي، سواء أكانت ثقافية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية، فإن ما يطلق عليه مفهوم ومصطلح حضارة هو ما تبقى من كل هذه الأشياء حاضراً ومؤثراً ومعمولاً به، فثمّة حضارات انقرضت وتركت آثاراً مادية كما هو حال الرومان والمصريين وغيرهم، ولكن ثمّة حضارات بقيت حية ومتجدّدة وفاعلة على الرغم من أنها ليست قائدة أو متقدمة في الميدان الحضاري راهناً، وذلك لأسباب عديدة، ومنها الحضارة العربية والإسلامية، ولعل الفكرة الأساسية في هذا المجال هي قراءة التاريخ وتحليل أحداثه بهدف استخلاص النتائج والعبر والاستفادة من الدروس تلك لفهم الحاضر بشكل أفضل ومحاولة استبصار المستقبل، فلابد من وضع عناصر التاريخ وأحداثه في مخبر التحليل الموضوعي للوقوف على عناصر القوة وأمارات الضعف لتجاوز هذه وتعظيم تلك، وصولاً إلى رؤية موضوعية وعملاتية في إطار رسم صورة مستقبل منشود وممكن التحقق إن توفرت الإرادة الصادقة واستخدمت الأدوات الفاعلة القادرة على تشكيل تيار حامل لأهداف منشودة.
لقد كانت منطقتنا العربية مركز الحضارة ومنبع الثقافة في يوم من الأيام، فنشأت في بلاد ما بين النهرين وساحل المتوسط أعظم الحضارات وأقواها على مر التاريخ، وكان البحر المتوسط يسمّى البحر السوري لحهة كونه يحمل معطى حضارياً واحداً قدّم للبشرية أول الأبجديات وشهد وادي الفرات أول مسكن للإنسان في التاريخ مع تدجين للحيوان والنبات على ضفافه، إضافة إلى أن أبناء المنطقة حملوا رسالة السماء إلى الأرض من المسيحية إلى الإسلام، حيث رسائل الإيمان والمحبة والتسامح، وفي بلاد الشام والعراق قامت أكبر إمبراطوريتين في التاريخ بعد الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وهما الأموية التي كان مركزها دمشق ثم الأندلس واستمرّت حتى سقوط غرناطة قبل ستمائة عام، والعباسية في بغداد واستمرّت أكثر من ستة قرون.
إن سقوط الإمبراطورية شيء واستمرار الخط الحضاري وعصب الأمة وروحها شيء آخر، فالإمبراطوريات كجبال الجليد تكون قوية راسخة ولكنها بفعل الزمن ومناخاته وتقلباته قد تذوب وتتقسم وتتفتت، ولكنها بالتأكيد قابلة للتماسك مرة أخرى والعودة للتشكّل، وهذا تحدّ حقيقي وحقيقة ودرس من الدروس التي يجب استخلاصها، فكم من إمبراطوريات سقطت ثم استعادت لملمة أطرافها وصعودها مرة أخرى، ومنها الصينية والفارسية والنمساوية والروسية وغيرها.
من هنا وبالقياس على ذلك وضمن معطيات حقيقية وليس أضغاث أحلام، يمكن لأمتنا العربية أن تستعيد ذلك المجد من خلال توفر إرادة صادقة وقراءة للتحوّلات التي يشهدها العالم اليوم والذي بدأ البعض من الكتاب والمؤرخين في الغرب على وجه التحديد يطلقون عليه عالم ما بعد أميركا، وذلك من خلال السعي لتشكيل تكتل عربي اقتصادي وعسكري وثقافي يحافظ على البنى الوطنية القائمة ويشتغل لا على التماثل أو التشابه أو ما يسمّى العوامل المشتركة في البناء القومي على أهميتها، وإنما على التفاعل والتكامل الذي يفضي بالضرورة إلى عناصر قوة متفاعلة ومتكتلة تصبح رقماً وتحتل مساحة فاعلة ومهابة الجانب في مشهد دولي مأمول.
د. خلف المفتاح