“القطيعة المعرفية” يعيد نقاشاً حارّاً إلى الواجهة
أمينة عباس
أثارت جلسة حلقة كتاب التي عُقدت، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بإدارة الكاتب أيمن الحسن حول كتاب “القطيعة المعرفية والحداثة بين العقل الغربي والعقل العربي” للدكتور غسان السيد، ما أراده الكاتب في إعادة إطلاق نقاش مهم كان حارّاً في القرن العشرين ويرتبط بحاضرنا ومستقبلنا ويتعلق بالوضع العربي في أن يستمر بالتغنّي بتاريخنا المجيد من دون أن نفعل شيئاً بدلاً من الانتقال من الوهم إلى الفعل، وإلا فإننا سنبقى على هامش التاريخ والزمن لا ينتظر.
يقول السيد: “الفكرة الأساسية التي يبنى عليها هذا الكتاب هي أن الوضع العربي لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل والعيش خارج التاريخ، فالمشكلات الموجودة أصبحت مزمنة لا تنفع معها الحلول التقليدية وإنما تحتاج إلى حلول جذرية، ومرور الزمن من دون إيجاد حلول لهذه الأمراض المزمنة سيؤدي إلى تفاقمها وظهورها على شكل صراعات واختلافات وانقسامات حادة وزيادة الجهل والتخلّف”، مضيفاً أنه أراد “أن تظهر التجربة الغربية في إطلاق الحداثة، حيث استطاع العقل الغربي إطلاق حداثته بالاعتماد على عوامل ذاتية بعد أن قام بقطيعته الكبرى مع الماضي لتكون أساسها عناصر ثلاثة: “تقديس العقل، كرامة الإنسان، نسبية الأشياء” وكانت عدته العلم والثروة والتقنية، فبعد أن أنجزت الحداثة مهمتها في تطوير المجتمعات الغربية ووصلت إلى نهايتها قام العقل الغربي بالانقلاب على مفهومات الحداثة، وهذه ميزة العقل الغربي الذي لم يتوقف عن التحرك بحيوية إلى الأمام من خلال النقد الذاتي وعدم الوقوف عند ما أنجزه.
لقد أردتُ من هذا الكتاب أن أقول إنّ الحداثة الغربيّة ثم ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة جاءت نتيجة هذه القطيعة المعرفيّة مع الماضي لا تبرؤاً من الماضي كما يعتقد البعض، فأصحاب الماضي اشتغلوا لحاضرهم فأبدعوا، وعلينا ألّا نعتمد على ما أبدعوا لأنهم اشتغلوا لحاضرهم، ونحن يجب أن نشتغل لحاضرنا ومستقبلنا لكي نكون مبدعين، أما العودة إلى الماضي كعصر ذهبي فيجب أن نتمثله حتى نكون بين الأمم وهي مقولة أدّت إلى ما أدت إليه في هذا الواقع”، ويوضح قائلاً: “إن الموقف من التراث هو الشغل الشاغل للمفكرين العرب وهم ينقسمون بين داع إلى التمسك به والبناء عليه من أجل التقدم، وآخرين يطالبون بأخذ النموذج الغربي وتطبيقه في عالمنا العربي بوصفه السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، من دون الانتباه إلى ضرورة أخذ الواقع المعقد في المجتمعات العربية في الحسبان، في حين يدعو طرف ثالث إلى التجديد من داخل التراث من دون أن يحدد الطريقة، وما هو التراث الذي يجب التجديد من داخله” ليخلص السيد إلى القول: “الواقع العربي مأزوم، والعقل العربي والثقافة العربية مأزومان بسبب أن العقل العربي الذي ينتج المعرفة قد تكون الطريقة غير صحيحة، ومعنى ذلك أن الثقافة التي ينتجها ثقافة مأزومة، ما أدى إلى حالة الفشل على المستويات كلها التي نعيشها في حاضرنا”.
وبعد توقفه ملياً على ما جاء في فصول الكتاب يبيّن الدكتور وائل بركات: “لشرح آلية التفكير الغربي يستشهد الدكتور السيد بمفكرين غربيين مصنفين في تيار ما بعد الحداثة هما جان بودريار وجيل دولوز، ويفكك الأول منظومات استلاب الوعي الإنساني التي تمنع الإنسان من التمييز بين الخيالي والواقعي، والحقيقي والمزيف، ويهتم الثاني بالعلاقة بين الفضاء والإنسان، والتساؤل الجوهري الذي يطرحه الكتاب هو لماذا لم يحقق العقل العربي حداثته؟ ولماذا بقي يعيش على هامش التاريخ؟ إن لم يكن قد خرج منه فعلاً على الرغم من محاولات عدة قام بها كانت فاشلة للخروج من عنق الزجاجة، بدءاً مما يسمى عصر النهضة العربية، ويعيد الدكتور السيد سبب فشلها إلى أنها عجزت عن تحديد أسباب تخلّف المجتمعات العربية، وأن تحركها للنهضة لم يقع بدافع داخلي بل بسبب الاتصال بالغرب فقط، ووجه من وجوه القضية يتوقف على العقل وآلية تفكيره، ففي حين يعمل العقل الأوروبي على تطوير المجتمع يخضع العربي لتغييب ذاته عبر حصر نفسه بالقديم وتقديس، والمقارنة بين العقلين تجسدها قصة حي بن يقظان لابن طفيل وروبنسون كروزو لدانيال ديفو، حيث هناك تشابه ظاهر بينهما، واختلاف جوهري في طريقة تفكير كل منهما تجاه الإنسان والطبيعة، فكل منهما طفل لم يعرف اللغة، وُضِع في جزيرة نائية لا بشر فيها سواه، وتُرِك يواجه الحياة بفطرية تامة فانشغل بطل ابن طفيل الممثل للعقل العربي بالتأمل بالطبيعة لاكتشاف وجود الله ليثبت -كما يرى بعضهم- أن الوعي الفطري يوصل إلى الخالق، أما ديفو فقد اهتم بطله الممثل للعقل الغربي بالتأقلم مع الطبيعة واجتراح معجزة العمران والبناء لممارسة الحياة بتنظيمه الذاتي”، ويسترسل بركات قائلاً: “الموقف من التراث هو ما يجعل مجتمعاتنا العربية منقسمة على ذاتها بين مجموع كبير آمن بأن الأفق والتطلعات لا تكون إلا بالعودة إلى التراث، وقلة مغلوب على أمرها رؤاها مستقبلية تطمح إلى بناء دولة حديثة يسودها مفهوم المواطنة والعدالة وحياة تليق بالإنسان وهي لا تستطيع عملياً مقارعة الأولى المحتمية براية التقديس وبأسطرة التراث وشخصياته ويصعب خوض معركة معه لأنه سيتعرض لوابل من التهم، أولها التكفير والارتماء في أحضان الغرب وتقليده والاتهام بالخيانة المؤكدة، وهذا ما كان في موقف الأصوليين تجاه رواد حركة النهضة والحداثة، ولنتذكر هنا أن الحضارة العربية أصبحت محط أنظار الشعوب الأخرى بعد تلاقحها مع ثقافات تلك الشعوب التي دخلت الإسلام وازدهرت وتوهجت بعد ترجمتها فكر الآخر إلى العربية”، متفقاً بركات مع المؤلف حين خلص إلى أنه: “لا يمكن العودة بالزمن إلى الخلف، ولهذا فإن علينا أن نعيش اللحظة الحاضرة ونخطط للمستقبل، فالأوروبي لا يتنكر للماضي بل يعتز به، لكنه يتعامل معه على أساس أنه ماض قام بدوره في لحظة تاريخية معينة، ولكل عصر أسئلته التي يجب أن تنبثق من الواقع الحاضر، وعلينا أن نجيب عنها وفق ما يفرضه علينا هذا الواقع”.
كما رأى الدكتور بركات أن الكتاب يربط بين أفكار كتاب “نظام التفاهة” لـ “آلان دونو” وأفكار “بودريار” في كتابه “المصطنع والاصطناع” الذي نشره عام 1981 والكتابان يركزان على تحويل الابتذال والسطحية والتفاهة إلى استراتيجية بقاء من خلال لعبة تضليلية تنفذها وسائل الإعلام بهدف تزييف الوعي وإقرار نظام التفاهة وتحويله إلى قيمة أساسية ومتعة جمالية”.
يُذكر أن الكتاب من الإصدارات الحديثة للهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة “آفاق ثقافية” الكتاب الشهري.