الانتخابات والتغيّر الكبير في المشهد السياسي المستقبلي لأوروبا
سمر سامي السمارة
تعكس نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، والتي لم تشكّل مفاجأة لأولئك الذين يتابعون عن كثب مجرى الأحداث في أوروبا، آثار الصراع العالمي على القارة الأوروبية، وخاصة أن النتائج في فرنسا وألمانيا، الدولتين الأساسيتين في الاتحاد الأوروبي، أظهرت الرسالة القوية التي وجّهها شعبا هذين البلدين إلى النخب السياسية، والتي تؤكد أن التغيير في أوروبا ليس سوى مسألة وقت.
ويرى مراقبون أن هذا التغيير ما هو إلا إشارة إلى أن انهيار الاتحاد الأوروبي سيحدث عاجلاً أم آجلاً، وهنا لا بدّ لنا من الوقوف على بعض الأسباب الجوهرية التي دفعت الحركات السياسية، والتي أكّدتها نتائج الانتخابات، لتكون القوة الدافعة للتحوّل في أوروبا القارية إلى هذه النقطة.
في الحقيقة، كان من المستحيل ألا يلاحظ أي شخص ممّن تعمّق في السياسة الأوروبية في العقد الماضي، كيف جعلت النخب السياسية الأوروبية أوروبا تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وكيف تم فصلهم عن الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال الغرق في القضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي والمناخ والتعدّدية الثقافية وسياسات الهوية، والأهم من ذلك، كيف ضحّوا بالاقتصادات الوطنية من خلال تسليم إرادتهم للهيمنة المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية على القارة.
وهنا، برز انفصال أوروبا عن الواقع وانهيار الاتحاد الأوروبي كنتيجة لتمفصل هذه الحلقات الثلاث في سلسلة التاريخ. وعلى الرغم من أن عدم معرفة الكثير حول العالم بهذا التمزّق والانهيار، بسبب عملية غسيل الدماغ المذهلة التي مارستها وسائل الإعلام العالمية الرئيسية، إلا أن نتائج الانتخابات البرلمانية أظهرت هذا الوعي لدى الجمهور العالمي.
إن ما يسمّى “التكامل الأوروبي” كان في الواقع تسمية في الأدبيات السياسية لآلية راسخة تماماً، تهدف إلى السيطرة على الدول القومية في أوروبا وفقاً للمصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة من خلال البيروقراطية المعينة في بروكسل، لكن العديد من الناس لم يدركوا ذلك إلا مؤخراً.
هذا “التكامل الأوروبي”، وهو قصة عمرها سبعون عاماً، كان يعني أن الممسكين بمقاليد السلطة السياسية في البلدان الأعضاء سلّموا شرعيتهم للولايات المتحدة من خلال المفوّضية في بروكسل، وقد ظهرت العلاقة التابعة على سبيل المثال من خلال موافقة المفوّضية وحكومات العديد من دول الاتحاد الأوروبي دون قيد أو شرط على أوامر الولايات المتحدة حول أوكرانيا.
كما أصبحت السياسة المركزية في أوروبا منفصلة تماماً عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وأصبحت محاصرة في المناقشات المتعلقة بالنوع الاجتماعي والتعدّدية الثقافية، وسياسات الهوية الجزئية، لدرجة دمّرت هذه السياسات والممارسات الليبرالية الجديدة النظام الأوروبي، الذي تم بناؤه نتيجة لمئات السنين من دفع الثمن.
وبعبارة أخرى، الليبرالية الجديدة، التي قدّستها سرديات الحرية، حفرت حفرة لأوروبا وهيّأت لانهيارها. وفي هذا السياق، الصراعات التي نتجت عن الاختلافات الثقافية الأساسية الناجمة عن الهجرة غير الشرعية، وإظهار اللاجئين كأنهم يحتلون أو يستولون على البلد الذي لجؤوا إليه ببعض العقليات التي عفا عليها الزمن، بدلاً من ضمان اندماجهم في استراتيجيات جيدة التخطيط، كل ذلك لم يتماشَ أبداً مع الحقائق الاجتماعية في أوروبا. وأخيراً، ترتب عليها مواجهة الحقيقة بأن فرض الليبرالية الجديدة على المجتمعات الأوروبية بالتسامح معها تحت اسم التعدّدية الثقافية لم يكن مستداماً.
لم يتمكّن الساسة الأوروبيون، الذين فقدوا بالفعل قوّتهم في مقاومة الهيمنة الأميركية على أوروبا، من تمهيد الطريق لاستعادة اقتصاداتهم، التي اهتزّت منذ أزمة عام 2008. إن نقاط الضعف العالمية المستمرة، والحرب في أوكرانيا، والضربات التي تلقتها الصناعة الأوروبية من خلال استراتيجية الولايات المتحدة لفصل أوروبا عن روسيا، أدّت إلى زيادة تكاليف الإنتاج الصناعي الأوروبي بشكل كبير لدرجة أن تكاليف إنتاج كل من السلع الأساسية والسلع الاستهلاكية المعمّرة والمنتجات التكنولوجية قد انخفضت، ونتيجة لذلك، ظهرت بيئة تضخمية، وعدم قدرة على المنافسة العالمية، والركود في بعض الاقتصادات.
في نهاية المطاف، تم إنشاء نظام اقتصادي مشوّه في أوروبا، اقتصر على مصالح الجهات المالية العالمية والشركات الكبيرة المتعدّدة الجنسيات، وانخفضت القوة الشرائية للعمالة بشكل كبير، وفي هذه المرحلة، الدول التي كان من المفترض أن تعالج القيود الاجتماعية والمظالم الاقتصادية كانت تحت سيطرة تلك الهياكل المتعدّدة الجنسيات.
لذا فإن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي هي ردّ فعل الشعب الأوروبي على هذا التشويه.
واللافت هنا أن مطالب المجتمع، التي بدأت تنسحق في ظل هذا النظام الاقتصادي المشوّه، تحوّلت إلى ردّة فعل جماعية وأصوات في صناديق الاقتراع من الأحزاب القومية ذات الميول اليمينية بدلاً من اليسار الأوروبي، فمع انفصال اليسار في أوروبا تماماً عن المشكلات الاقتصادية والصراعات الطبقية وتخلّيه عن دوره التاريخي في المناقشات المتعلقة بالمساواة بين الجنسين، والهوية الثقافية والمناخ، ملأت الأحزاب القومية هذه الفجوة. لذا، أصبح حزب التجمع الوطني بزعامة لوبان في فرنسا الحزب الأول بنسبة 32% من الأصوات، وفي ألمانيا أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا الحزب الثاني، متجاوزاً الحزب الاشتراكي الديمقراطي -الخضر- الليبرالي الحاكم.
يبدو أن المواطنين الأوروبيين قد سئموا من تورّط أوروبا المباشر في صراعات لا نهاية لها، بالإضافة إلى التضخم وتناقص الثروة، وفرض الليبرالية الجديدة على النوع الاجتماعي والهوية، والصراعات الاجتماعية والثقافية التي خلقتها الهجرة غير المخطط لها، والسياسات العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإنهم يتجهون إلى الأحزاب القومية التي تفهم هذه الشكاوى.
وحسب محللين، النزعة القومية التي أصبحت موجة في أوروبا، يمكن أن تحدث تغييراً في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل، حيث أظهرت أحدث استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تقدّم دونالد ترامب على جو بايدن، وخاصة بعد صدور حكم الإدانة الأخير.
وفي حالة وصول ترامب إلى الرئاسة مرة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية، يصبح وصول لوبان في فرنسا إلى السلطة عام 2027، ومسيرة حزب البديل من أجل ألمانيا إلى السلطة في ألمانيا، سيناريو خطيراً الآن، حيث سيكونان يداً بيد لحل الاتحاد الأوروبي!