متاهات عائمة
غالية خوجة
ما الحياة؟
سؤال بسيط يأخذنا حدّ الغرق بدلالاته، ويجعلنا نسترجع ذاكرتنا الجنينية التي كنّا فيها نعوم من دون وعي بهذه الحياة الخارجية، وتفاصيلها، وعلاقاتها المتشعبة، المتداخلة، وتدرجات تلاوينها التي لا تجعل أحداً من بني البشر مرتاحاً كما يتمنّى، وتسحبنا أمواجها إلى تلك اللحظة المنسيّة ونحن نعوم في أرحام أمهاتنا، مستمتعين بموسيقا نبضاتهنّ، غير متأقلمين مع فقدهن أو افتقادهن لنا ذات لحظة.
وبعد الخروج من العوم، تبدأ متاهة عائمة أخرى بسحبنا مع أمواجها لعلنا نتدرّب على أن نكون أناساً مثاليين، أو شبْهَ مثاليين على الأقل، لكننا نصطدم بالمحيط الضبابي، المعتم، الغائم، المادي جداً، فيلمع ويدمع لا وعينا وهو يقارن بين العوم في رحم الأم واتساعه على المحبة، وتحليقه بالطمأنينة والسلام، وهذه المتاهة الحياتية التي لا تنتهي، المعقدة بالعتاب، لا العتابا، بالإيذاء العنيف حتى لو كان مجرد كلمات تشبه ما قاله الشاعر “وأطلس عسال”، ولعلّ في حياة كلّ منا من هذه النماذج حتى القريبة منا جداً، ما يدعونا لنتساءل: “ما الحياة؟”.
ومن بوصلة أخرى لمتاهة التفكير، دعونا نرى الجميل من الحياة، والجميل منا وفينا، فمن لا يجيد السباحة في المصاعب، لن يصل إلى شواطئ الحكمة، وهكذا.. كلنا يحاول أن يجيد هذا العوم، فيتملّص من موجة غاضبة، إلى أخرى أكثر شراسة، لكنه ينجو بمساعدة الخالق، وحسن نواياه، ومهاراته المستفادة من تجاربه السابقة، فترفق به موجة غير متوقعة، تساعده على العبور إلى سلالة من الموجات الأخريات ليصل إلى الشاطئ، نازعاً نفسه من مخالب بني جنسه التي ودّت لو تسحبه إلى الأعماق القاتلة، مستغربة كيف نجا؟! متسائلة معه أيضاً: “ما الحياة؟”.
وبعد الوصول إلى الشاطئ، يدخل كل منا في متاهة جديدة تحتاج إلى مهارة مناسبة من العوم، فيجرّب القبض على ما مرّ منه من سنوات عبرت في المتاهات، وماذا لو لم يصادف في طريقه أمثال أولئك البشر الأخطبوطيين؟ الحرباويين؟ هل كان سينجز للحياة ما هو أفضل؟ أم أنه سيظل مثل ورقة خريفية رحلت عن غصنها لكنّ ظلها لن يسقط أبداً عن الغصن، بل سيذكر كيف مرّت الحياة، ومرّ معها العمر مثل علامات موسيقية بين ثلج وربيع وصيف؟.
الذكريات تعبر مثل الأحلام في المتاهات، وأغلب من عرفناهم وآذونا سحبتهم الرياح إلى متاهات التلاشي مثل أوراق الخريف، لكنّ صفرة بواطنهم المائلة إلى الأسود تدلّ على آثار أعمالهم المرئية في ملامحهم، تلك المحفورة مثل نواياهم على الأمواج والجذوع والقلوب الحزينة.
المتاهات مستمرة، حتى في عقولنا وقلوبنا وأنفسنا، والفائز الذي سيجيب الحياة عن سؤالها: ما الحياة؟ هو ذاك الإنسان الحليم الحكيم الذي يحتمل هذا الصراع الدرامي صابراً، جاعلاً من المحنة منحة، وساعياً إلى العمل بمسؤولية دون إيذاء أحد، بل كريماً مع الحياة، ومع الجميع، وربما حتى مع أولئك الذين صارت كلماتهم القاسية، وأفعالهم العنيفة، ندوباً في تجاويف روحه، وموجات نفسه، لأنه الذي أبصر النور في أقصى الأفق حالما يخرج من المتاهات المتداخلة الداخلية والخارجية، ليشاهد نفسه، منذ مرحلته الجنينية، جالسة على ذاك الشاطئ، وبيدها كتابها المضاء بالمحبة والعمل والنجاح، حتى لو أصبح هذا الكتاب قديماً مثل الكتب الأثرية، إلاّ أن كلماته معتّقة بالخير والعطاء، ومراياه تدور حوله ليس كما تدور مراوح طواحين الهواء في قصة “دونكيخوته”، بل كما تدور النهارات الخارجة من آخر نقطة معتمة من الليل، لتسطع الشمس على المتاهات والفصول والحياة.
عزيزنا القارئ، ترى كم من متاهة مررت بها وخرجت منها أكثر قوة وعطاء ومسؤولية وحكمة؟ وبذلك تكون قد أجبتَ الحياة: ما الحياة؟.