ثقافةصحيفة البعث

الأبعاد السرية بين فنيات السينما وشخصيات عبد اللطيف عبد الحميد

غالية خوجة

مرّت السينما بمرحلة ذهبية تركت أثرها في قلوب الناس، ومنذ ظهورها، اتخذت لها مكاناً بين الفنون، ونافست المسرح، وشاشة التلفاز، وامتدت في سورية كما في العالم، وشملت مواضيعها العديد من القضايا الحياتية الاجتماعية والوطنية والروحية والأدبية والتوثيقية، واستندت سيناريوهاتها على الكثير من الروايات، واستقطبت الكتّاب والمخرجين والممثلين، وبرع في مجالها الكثيرون، منهم مصطفى العقاد وأفلامه التي لن تُنسى، وعبد اللطيف عبد الحميد الذي قدّم 20 فيلماً سينمائياً، روائياً طويلاً وقصيراً ووثائقياً، متحركاً بين التأليف والإخراج، منتجاً سينما “المؤلف المخرج”، بعدما عمل في تحقيق بعض الأفلام، وعمل مخرجاً مساعداً مع الفنان محمد ملص فيلم “أحلام المدينة”، وتخرّج من “معهد غيراسيموف العالي للسينما” في موسكو 1981، ليبدأ بعد فيلمه “تصبحون على خير” انطلاقته القوية مع فيلمه الروائي “ليالي ابن آوى/1987″، وينتهي مع “الطريق” الذي حاز على جائزتي أفضل نص وأفضل تمثيل- دورة 33 مهرجان قرطاج/ 2022″، بينما شكّل فيلمه الثاني “رسائل شفهية/1991” ظاهرة جماهيرية استقطبت النقاد أيضاً، وحصدت الجوائز منها برونزية جائزة “فالانسيا” الإسبانية، وتوالت أفلامه العابرة من “نسيم الروح” إلى “ما يطلبه المستمعون”، و”عزف منفرد”، و”صعود المطر”، و”قمران وزيتونة”، و”خارج التغطية”، و”العاشق”، و”الإفطار الأخير”، و”عزف منفرد”.

الأبعاد الخفية خلفية موسيقية

ومن أهم الأبعاد السرية الخفية التي ساعدته على هذا التمايز، العديد من المفردات الجمالية، منها أنه وظف في أفلامه موهبته الفنية في التمثيل، وموهبته الموسيقية بحساسية العارف، كذلك طفولته وحياته وثقافته، متكئاً على أحلامه التي كان يراها، وقصص الواقع الحياتي وحكاياته بطريقة “التراجيكوميدي”، وطريقة توصيله للكوميديا الساخرة الواضحة في أفلامه، والبيئة الريفية والمدنية، السورية والعربية، بالإضافة إلى انشغاله بالحالة النفسية والفكرية والمعرفية والثقافية لشخصياته الفيلمية، والحالة الاجتماعية المحيطة بفئاتها المتنوعة، وأفكارها المتناقضة والمتضادة والمشاكسة والمتصالحة، وكل ذلك يؤكد أن الهاجس الفني جذبه إليه من دون رجعة.

ولقد أتقن عبد اللطيف عبد الحميد فنيات تركيب الشخصيات كتابة وإخراجاً، فرسم لها مدارها المناسب، وتمتّع أغلبها بتجسيد “الكاريكاتيرية” التي تجعل من العنف والحزن حالة كوميدية متدرجة مع ألوان السواد المتفائل، سواء بواقعها الاقتصادي، أم الاجتماعي، أم النفسي، وتتميز بأنها جادّة في أفلامه الجادّة بأهدافها ورسائلها وإشاراتها وصراحتها، كما الحب برز محوراً أساسياً، سواء أكان علاقة حب بين شخصيتين، أم علاقة حب مانحة للعلم والمعرفة ومساهمة في بناء الإنسان.

ولمعت شخصيات عدة في أفلامه، وأمثّل لها بشخصية الجد “صالح” التي مثّلها الفنان موفق الأحمد في فيلم “الطريق”، لكونها شخصية مثقفة بالحياة، وواعية بفنيات تطبيق هذه الثقافة على الحياة، بكيفية أعادت لنا الذاكرة إلى أمّ المخترع “أديسون”، ما يجعل الجد “صالح” مع حفيده “صالح” شخصية فنية مميزة بأسلوب اكتشافها للمخبوء من شخصية الحفيد التي مثلها الطفل “غيث الضاهر”، فانعطفت بسلوكياته إلى الهدف من عنوان الفيلم على الرغم من كل الظروف السلبية المحيطة، العائلية والدراسية والبيئية المجسّدة بحياة الريف.

بينما عكست شخصية الإنسان المؤنث دور المرأة في المنظومة الاجتماعية، بواقعيتها وأحلامها، الراغبة في تحسين حياتها والبنية الاجتماعية، وتميزت بالتعاطف والحنان والصمت مع الصبر، أو مع الاعتراض والتعبير عنه بمنطوق الحياة البيئية المعاشة، وعانت تقلبات الإنسان المذكر كأب وزوج وفارس أحلام، لكنها كانت أمّاً معتادة، ولم تكن تلك الشخصية القيادية، سواء أكانت مثقفة وفنانة أم لا، وهو ما نلاحظه في أعمال الشاشة السورية والعربية أيضاً.

وضمن هذا المفهوم، نتساءل في ملفنا الثقافي الشهري لـ”البعث” عن واقع واستشراف مستقبل السينما السورية بين الواقع والطموح؟ وعن الشخصيات المثقفة والفنية في أعمال الفنان الراحل عبد اللطيف عبد الحميد؟.

سورية بحاجة إلى متحف إبداعي

بحزن أجاب الأديب الدكتور هيثم يحيى الخواجة: “ما أقسى أن تفقد مبدعاً! وما أصعب أن يترجل من ترك أثراً ضافياً على هذه البسيطة!. يقول الشاعر كعب بن زهير: “كل ابن أنثى وإن طالت سلامته، يوماً على آلة حدباء محمول”، الفارس السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد أحزننا الرحيل الذي لا مفر منه، بعد أن ساهم في ملء جعبة الإبداع السورية والعربية بأعمال فنية لها قيمتها وأهميتها وأثرها، وتميز بأسلوبه الإخراجي، حيث آمن بالتواصل الجماهيري ومحاكاة الآخر عبر الفن، ولذلك، اعتمد في مدرسته الإخراجية الأساليب السهلة التي تميزها البساطة والجماليات البصرية من خلال مفردات المكان والتعبير والإيماء والدلالة، دون التنازل قيد أنملة عن الفن الراقي فكرياً وجمالياً.

وتابع: “إن تقديره واحترامه للبصر والبصيرة يعني الكثير في السينما، وتلك ميزة مهمة في صناعة السينما، ولهذا فهو علامة مميزة في الإخراج السينمائي، ومن ميزاته غزارة الإنتاج مع الحفاظ على الفن المتألق، وتمسكه بالأعمال الجادة والهادفة، ومشاركته في مهرجانات كثيرة، ونيله جوائز كثيرة، ما أهّله لأن يتسنم مكانة لائقة في السينما السورية والعربية، وساهم مع من ساهموا بالنهوض بتاريخ السينما السورية منذ السبعينيات وحتى تاريخ وفاته، ملتفتاً إلى فئات الناس المتنوعة، ليعكس من خلالها ثقافة الحياة اليومية بمفهوم ما، وطريقة تفكيرها بواقعها وأحلامها، وبأدوات فنية مناسبة لكل شخصية”.

شخصيات غير فاعلة

وبدوره، قال الفنان صالح السلتي: “رحيل عبد اللطيف عبد الحميد الذي شغل السينما السورية بأعمال فنية متميزة سيحدث فراغاً في المؤسسة العامة للسينما، ولا شك في أن هناك من الطاقات السينمائية المبدعة بين المخرجين السوريين التي لم تأخذ فرصها بعد، وأنا لست مع فكرة إعطاء مئات الفرص للتجريب مع أجيال لم تستطع حتى أن تلفت الأنظار”.

واسترسل: “الآن، وبعد تطور الدراما التلفزيونية، اتجهت غالبية الكتّاب للكتابة التلفزيونية، أما فيما يخصّ الكتابة السينمائية فهناك نقص وعجز حقيقي بالنسبة للخصوصية السينمائية، والمعالجة الفنية، وحرفية الكتابة، وتقديم المواضيع السينمائية، لذلك، نجد غالبية المخرجين السينمائيين يكتبون سيناريوهات أفلامهم بأنفسهم، وبالنسبة إلى الروايات التي يمكن تحويلها لأفلام سينمائية، فللأسف الشديد، نادراً ما نجد رواية في العصر الحديث تصلح لأن تتحول إلى فيلم سينمائي.. يجب أن نتكلم بصراحة، نحن نفتقد إلى الحالة الإبداعية في الرواية الأدبية القابلة لأن تكون سيناريو سينمائياً، نحن، أحياناً، من مقولة صغيرة أو حكمة من الممكن أن نصنع فيلماً، والسينما التي تناسبنا مفقودة، فإمّا أننا نتطلع إلى مواضيع سينما الغرب، وننبهر بالتكنولوجيا، وأحداث أفلام “الأكشن”؛ أو أن البعض يصنع سينما عربية باهتة”.

وعن ميزات ثقافة الشخصيات في أفلام عبد اللطيف عبد الحميد، أجاب السلتي: “هي أقرب إلى الواقع، شخصيات تملك الثقافة والوعي وبعد النظر، لكنها، على الأغلب، غير فاعلة وغير متمردة، ولا تملك الجرأة على المغامرة والتغيير”.