مستقبل السينما السورية بعد عبد اللطيف عبد الحميد
آصف إبراهيم
لا تكمن أهمية عبد اللطيف عبد الحميد في أنه صاحب مدرسة على صعيد اللغة والصورة السينمائيتين فحسب، بل تكمن أهميته وفرادته أيضاً في أنه ظل طوال حياته وفياً ومخلصاً للسينما، ولم يضعف أمام إغراءات مالية ونجومية يمكن أن تتيحها له الدراما التلفزيونية مثلاً، كما فعل آخرون غيره، وبقي محافظاً على عشقه للفن السابع، ومواظباً، ومتحدياً كل الظروف والتحولات التي مرّت فيها صناعة السينما السورية الخجولة والشحيحة والمتواضعة من حيث السخاء الإنتاجي.
كان عبد اللطيف، على الرغم من أحلامه الكبيرة، واقعياً يسعى إلى تقديم أقصى ما يستطيع ووفق الإمكانيات المتاحة، من دون أن يتذمر أو يجلس منظّراً ومنتظراً تحسن الظروف وإتاحة الإمكانيات، كما فعل غيره.
هنا تكمن أهمية هذا المخرج والكاتب والصانع بالنسبة إلى المؤسسة العامة للسينما التي تعاني الكثير من الترهل والبيروقراطية ومحدودية الرؤية الإنتاجية الربحية وفق عقلية القطاع العام، من دون أن تتطلع للانعتاق من أسر تلك العقلية الجامدة، أي كيف تصنع سينما جميلة وتجني من ورائها ربحاً وفيراً، وهذا ما لم يدركه ويتجاوزه كل من مرّ على تلك المؤسسة من إداريين، يفتقدون إلى الحلم واجتراح الممكن من اللاممكن، لضمان الاستمرارية والارتقاء بالمنتج السينمائي.
كان عبد اللطيف ركيزة أساسية من ركائز هذه المؤسسة وثالثة الأثافي إن صح التعبير، وبرحيله، هل تستقيم تلك المؤسسة وترتكز قبل أن تعوض، بديلاً لتلك الأثفية الثالثة المفقودة؟.
الكثيرون ممن دخلوا عتبات مؤسسة السينما لم يطيقوا معها صبراً لأنهم كانوا مجرد حالمين، لكن غير واقعيين، لذلك توقفوا عند تجربتين أو ثلاث إلا عبد الحميد الذي رسم لنفسه حلماً كبيراً وراح يجزئه إلى أحلام صغيرة لخصها في أفلامه التي ألفها وأخرجها الواحد تلو الآخر منذ “ليالي ابن آوى” تجربته الروائية الأولى وتلك النقلة النوعية في حياته حتى فيلم “الطريق” آخر أفلامه لتكون كلها مجتمعة حلمه الكبير الذي حقق من خلاله ظاهرة ومدرسة سينمائية اسمها واقعية عبد اللطيف ذات اللغة البصرية السحرية والمبهرة، أعاد من خلالها تدوير وقائع البيئة والحياة عبر مراحل زمنية متعدّدة، وقدمها إلى المتلقي كلوحة فنية غنية بالأفكار والمواقف والمحاكمة.
هذا الإرث والمخزون الذي تركه لمؤسسة هزيلة يمكنها أن تغرف منه لسنوات قادمة، لكن إلى حين ستجد نفسها بعده عاجزة عن الخروج من عنق الزجاجة الذي حشرت نفسها فيه عندما لم تهيئ نفسها ليوم تفتقد فيه أهم مخرج جوائز مرّ عليها، ولم تسعى إلى تهيئة ورعاية من تتلمذوا على يديه وتهيئ لهم الإمكانيات لمواصلة المسيرة، بدلاً من تركهم الواحد تلو الآخر عجينة في مخبز الدراما التلفزيونية التي باتت بهوية مشوهة وتجارة صفراء، تبحث عن الإثارة ومخاطبة الغرائز.
عشرون فيلماً روائياً طويلاً هو إرث عبد الحميد الغني الذي استودعه خزائن مؤسسة السينما، الإرث الأغنى، كماً ونوعاً، من بين كلّ المخرجين السوريين الذين مروا على المؤسسة، وغادروا بصمت، أو بيأس لم يعرفه عبد الحميد يوماً، فهل تتكرر تلك الظاهرة أسلوباً وشغفاً ذات حين؟.. تساؤل يحيلنا إلى سنوات قادمة ستكون خلالها المؤسسة أمام تحدٍ كبير يتمثل في ردم الفجوة التي خلفها رحيل عملاق السينما السورية.