ما هو القلب الأقرب إليك؟
ترى، ما هو القلب الأقرب إليك؟
بلا شك، كلّ منا سيجيب مشيراً إلى قلب من يحبه بمفاهيم المحبة الأسمى، وتتعدد إجابات القراء، ومنها: “قلب حبيبي”، “قلب أبي”، “.. أمي”، “.. ابنتي”، “.. ابني”، “.. لا.. قلب زوجي” – والزوج باللغة العربية للزوج والزوجة، تماماً، مثل “شاعر” وغيرها ـ “قلب أختي”، “أخي”، “.. لا.. قلب الصديق الوفي”.
لكن، لماذا؟
أغلب القلوب التي اختارت قلباً ما من القلوب، ألخص إجاباتها بهذه الكلمات: لأنه قلب حساس، حنون، طيب، ودود، لا يتخلّى عني وقت الضيق، ويصنع لي الفرح مهما كانت الظروف، يشعر بي كثيراً، ويحبني بطريقة فوق الوصف، وهو بجانبي دائماً في الأفراح والأتراح، أشعر وأنا معه بأن الدنيا تزهر، تضحك، ترقص، فلا أكترث بالألم حتى لو كان الدمع متجمداً في عينيّ، بل أجدني أنفض الكآبة، وأرفرف مثل السعادة، وكأنني كنت بنصف قلب، وحين ينبض قلبه بكل هذه الإنسانية أرى قلبي قد اكتمل وكأنه في ليلة البدر.
ولربما أجاب أحدنا: “قلبي هو الأقرب إليّ، لأن القلوب التي وثقت بها خذلتني مع مرور الزمان، ومسافات المكان، وأغلبها يتخلّى بأية لحظة، ويبتعد، ربما لأن المصلحة كانت الرابط لا القلوب، ولا المحبة، ربما، أو ربما لأن العلاقة التي تجمعنا لم تكن واضحة”.
أمّا أنا فأرى أنّ قلب الأمّ هو الأقرب من قلبنا إلى قلبنا، لما تمتلكه من إحساس متفاعل معنا مذ كنّا أجنّة، لأنها تفهمنا، وتعرف تحولاتنا، وتدعو الله لنا بكل الخير، مهما فعلنا، لأنها الأم الوالدة، التي منحها الله ليس، فقط، غريزة الأمومة، بل حالة من مقام أعلى، وأعني: التخاطر الروحي “التلباثي”، وهو بصيرة حدسية، لا مرئية، تستشعر ذبذبة الأرواح، وتلتقي معاً في نقطة ما، فتشعر من خلالها بنا حتى قبل شعورنا بالحالة المحيطة بنا بخيرها وشرّها، وهذا سرّ من أسرار الأمومة، تعرفه الوالدات، وغالباً، ما يجهله الأولاد.
وللمستغرق في هذه الحالة الشفافة، أن يلمسها في حياة والدته، وبعد مماتها، وفي الحالتين، التقارب الروحي يتشكّل نبضات بهيئة رؤيا وأحلام، منها المُصَابر والمواسي، ومنها المتنبئ والهادي، ومنها المرشد والداعي، ولربما تحوّل هذا الإحساس إلى صوت الأمّ الذي لا يسمعه إلاّ الأقرب إلى قلبها أيضاً، فيشعر بأنها معه وكأنها روحه الأخرى، أو صوت ضميره، وكأن هذا الصوت لم يغادر من ذاكرته ومخيلته وأعماقه، فيستعيد كلماتها، وطريقة حديثها، وقاموسها الكلامي، وفضفضتها، وآلامها، وأفراحها، وتوقعاتها، ودعواتها البيضاء، فترتسم كلماتها الطيبات مع ابتسامتها الحنون، فيبتسم كلٌّ منا لها أو لطيفها، ويشعر بأن الحياة أزهرت حواليه، وما إن يتحرك يلمحها، فيستعيد طاقته الإيجابية، ويوقن بأن الله وهبه نعمة جديدة.
وكم من أعمال فنية وأدبية وعلمية اختارت الأمّ موضوعاً لها، عاكسة البُعد الإنساني لهذه العلاقة الرحمية الحياتية المتواصلة حتى بعد الموت.
قد تكون جميع القلوب هي الأقرب، وقد تكون القلوب المتحابّة بلا مسافة قربٍ، ولا مسافة بعد، لأن المسافات الزمانية والمكانية تلغي مسافاتها في عالم التقارب الروحي، ولا تحكمها الأبعاد المألوفة، وتظل مشرقة في عالم لا يبصره إلاّ العارفون.
ها أنا ألمس قلبها ويلمسني حتى حين أعانق شاهدة قبرها، وأراها بأمّ قلبي وهي هناك، في البرزخ، تحضنني بصمتها الظاهري، وبدعواتها الطيبات، وبحنانها اللانهائي، فأستمد الطاقة الروحية التي تضيء ما اختبأ منها في قلبي، وأواصل لنلتقي، وتلك حالة من مكونات المصير الإنساني، وهي حالة مستمرة لعالم الناسوت، المخلوق، القابل للفناء، أراها تحضنني، ولا يعادل عناقها لي حتى من خلال الشاهدة كل قلوب الناس التي حولي لو اجتمعت.
غالية خوجة