مأزق تشكيل حكومة فرنسية
هيفاء علي
أشارت صحيفة لوفيغارو إلى أن “المعسكر الماكروني” على استعداد لتقاسم السلطة، وليس تركها بالكامل غداة الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي خلّفت برلماناً دون أغلبية واضحة. وأضافت الصحيفة: في اليوم التالي من الانتخابات أحصى المعسكر الرئاسي خسائره التي تقدّر بنحو ثمانين نائباً وتساءل عن كيفية التخطيط للمستقبل.
وحسب قصر الإليزيه، طلب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من غابرييل أتال البقاء رسمياً رئيساً للوزراء في الوقت الحالي من أجل ضمان استقرار البلاد.
فالرئيس يتحرّك في كل الاتجاهات، من أجل أن يبقى في قلب اللعبة، ونقلت صحيفة لوفيغارو عن أحد المقرّبين منه أنه “في الوقت الحالي، يتحرّك نحو ائتلاف حكومي يتراوح بين الشيوعيين واليمين”.
وفي معسكر ماكرون، هناك كثيرون يريدون أن يلعبوا ورقتهم الخاصة على غير العادة، ولم ينتظر جناح اليمين الإشارة للتعبئة، حيث تحرّك بعض الوزراء على غرار اجتماع وزير الداخلية جيرارد دارمانين مع عشرات النواب لتناول طعام الغداء في وزارة الداخلية، وكان الهدف واضحاً وهو منع “الجبهة الشعبية الجديدة”، وهي كتلة نيابية معزّزة في البرلمان تمتلك أكبر عدد من المقاعد (184 نائباً) من “الاستيلاء” على السلطة، في حين تعتزم أحزاب اليسار اقتراح اسم للحكومة هذا الأسبوع.
أما صحيفة ليبراسيون فترى أن اليسار الفرنسي بات يتقدّم خطوة خطوة منذ قرار حل البرلمان، فتحالف اليسار ما زال مذهولاً من نتائج الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية التي وضعت “الجبهة الشعبية الجديدة” في الصدارة، متفوقة على المعسكر الرئاسي والتجمّع الوطني اليميني المتطرف.
وأوضحت اليومية أنه يتعيّن على التحالف الاتفاق على حكومة محتملة، وكانت خطابات قادة حزب “فرنسا الأبية” و”الاشتراكيين” و”الخضر” و”الشيوعيين” على وسائل الإعلام تصبّ في اتجاه ضرورة دعوة الرئيس الفرنسي “الجبهة الشعبية الجديدة” إلى الحكم. فتحالف اليسار يريد الضغط على ماكرون، لأنه يرى أنه يريد ترك الوضع يتدهور من أجل استعادة السيطرة.
ونقلت الصحيفة عن بيير جوفيه، الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي، قوله: “عليهم أن يعترفوا بأننا الكتلة الأولى، ويجب على الرئيس أن يقول إننا انتصرنا، فنحن قادرون على الحكم رغم أن لدينا مئتي نائب”، مضيفاً: إن اليسار رغم عدم حصوله على الأغلبية البرلمانية يدّعي تمثيله للأغلبية الشعبية ويطالب بإلغاء إصلاح نظام التقاعد، وخلق “صدمة القوة الشرائية”، مع زيادة الحدّ الأدنى للأجور، وتطوير الخدمات العامة.
وكان جان لوك ميلانشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية” (يسار راديكالي)، والرابح الأكبر في الانتخابات، أوّل من علّق على نتائج جولة الإعادة. وبالنظر إلى تقدّم جبهة اليسار، فقد سارع إلى المطالبة بتعيين رئيس للحكومة لتنفيذ برنامج الحكم الذي وضعه. وذهب ميلانشون إلى تحذير ماكرون من “التلاعب”، وتنادت الأحزاب الأربعة لعقد أول اجتماع تنسيقي جرى ليل الأحد الاثنين، وستعقبه اجتماعات متلاحقة في الساعات والأيام المقبلة للاتفاق على اسم مرشحها لرئاسة الحكومة وعلى الاستراتيجية التي سيعملون على هديها. ومن الأسماء المطروحة رئيس الجمهورية السابق الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي فاز بمقعد نيابي، وأوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، والنائبة الاشتراكية السابقة فاليري رابو، ومارين توندوليه زعيمة حزب الخضر، التي لفتت إلى أنه وفقاً لمنطق المؤسسات الفرنسية، يجب على ماكرون اليوم أن يدعو “الجبهة الشعبية الجديدة” رسمياً لترشيح رئيس للوزراء وتساءلت: “هل سيفعل ذلك أم لا؟”، مضيفة: “بما أن هذا الرئيس مليء بالمفاجآت دائماً، سنرى”. أما ماتيلد بانو، رئيسة مجموعة “فرنسا الأبية” في البرلمان السابق، فرأت أن ميلانشون “مؤهل لتسلم رئاسة الحكومة”، بينما شركاؤه في تحالف اليسار لا يرغبون به باعتباره شخصية تثير تحفظاتٍ كثيرة.
وفي حقيقة الأمر، تقول أوساط الإليزيه إن ماكرون غير مستعجل لتسمية رئيس جديد للحكومة، وإنه ينتظر التشكيلة النهائية للمجموعات البرلمانية. بيد أن الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه هو محاولة إحداث انشقاق داخل جبهة اليسار بإبعاد الاشتراكيين والخضر عن “فرنسا الأبية”، ومحاولة اجتذابهم للدخول في حكومة ائتلافية تذهب من اليمين الكلاسيكي وحتى اليسار الاشتراكي، وتضمّ، بطبيعة الحال، وزراء من معسكره.
في السياق، قالت مارين توندوليه، زعيمة حزب الخضر: “إن الأمر لن يكون بسيطاً، ولن يكون سهلاً، ولن يكون مريحاً.. وسيستغرق بعض الوقت”. والسبب الرئيس في ذلك الاختلافات الجوهرية بين المطالب والبرامج، سواء كان ذلك بالنسبة لمستقبل قانون تعديل سن التقاعد، أم تجميد قانون الهجرات، ورفع الحد الأدنى للأجور، وإعادة فرض ضريبة الثروة، فضلاً عن علاقات فرنسا مع الخارج، بما في ذلك حرب أوكرانيا، وحرب غزة، حيث يدعو اليسار إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من غير تأخير.
والواقع أنه ليس هناك ما يشير إلى إمكانية التفاهم على حكومة تجمع الأضداد، وخصوصاً أن فرنسا لم تعتد على قيام حكومات ائتلافية على غرار ما يحصل في بلجيكا وإسبانيا أو إيطاليا. لذا، فإن الخروج من المأزق المؤسساتي قد يكون بالذهاب إلى حكومة من التكنوقراط، أي غير سياسية، وبرئيس تقبله كل الأطراف، مع التعهد بعدم إسقاطها في البرلمان لمدة سنة يمكن بعدها لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مجدّداً، ويدعو لانتخابات تشريعية أخرى.
يبقى أن أمراً كهذا يتطلب من ماكرون أن يغيّر النهج “العمودي” الذي اتبعه في الحكم منذ سبع سنوات. الوضع السياسي تغيّر جذرياً، وفرنسا دخلت مرحلة من المطبات الهوائية الخطيرة.