مستجدات واستحقاقات قمّة حلف شمال الأطلسي “ناتو”
ريا خوري
بدأت يوم الثلاثاء 9 تموز الجاري أعمال قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث تم الاحتفال بمرور خمسة وسبعين عاماً على تأسيس الحلف، تلك القمّة تأتي في وقت محفوف بالتحدّيات والمخاطر في تاريخ الحلف مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، والعالم يشهد حالةً من الضجيج المتزايدة حول قدرة الرئيس الأميركي من الحزب الديمقراطي جو بايدن على الفوز بإعادة انتخابه، والمخاوف من سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه الحلف إذا فاز بالانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني القادم.
تلك القمة تعدّ بمنزلة اختبار لقدرات بايدن على الساحة الدولية، بعد أدائه المرتبك والضعيف خلال المناظرة الرئاسية وتزايد المطالب من عدد كبير من الديمقراطيين والجمهوريين والشعب الأمريكي بتنحّيه عن السباق الانتخابي. ويواجه بايدن تحدّياً كبيراً خلال القمّة لتهدئة المخاوف والقلق المتزايد وإظهار التماسك والكفاءة حينما يرحب بقادة اثنتين وثلاثين دولة في العاصمة واشنطن، حيث تخضع تعاملات وأحاديث بايدن مع نظرائه الأوروبيين لتدقيق مكثف ومراجعة حاسمة، وخاصة في أعقاب زلات لسان سابقة خلط فيها بين أسماء بعض قادة الدول، وقد توجّهت الأنظار إلى المؤتمر الصحفي الذي سيعقده بايدن في ختام القمة، وقدرته على التفاعل مع الصحفيين وأسئلتهم.
افتتح بايدن القمة بحفل تذكاري في قاعة أندرو ميلون، حيث تم التوقيع على المعاهدة التي أنشأت حلف شمال الأطلسي “ناتو” في 4 نيسان 1949. وخاطب بايدن حلفاء الناتو علناً، حيث تضمن جدول أعمال القمّة، اجتماعاً لمجلس الناتو وأوكرانيا، فقال: إن الناتو أضحى الآن أكثر قوة، معلناً تزويد أوكرانيا بنظام صواريخ باتريوت الأميركية الجديد، بينما حلفاء الولايات المتحدة سيزوّدون أوكرانيا بأنظمة دفاع تكتيكية في الأشهر القادمة.
وسبق لرومانيا وألمانيا الاتحادية أن أعلنتا أنهما ستقدّمان لأوكرانيا منظومتيهما الدفاعيتين من طراز باتريوت، في حين أعلنت هولندا أنها تعمل على تجميع منظومة مماثلة لتقديمها للجيش الأوكراني، كما أعلنت روما أنها ستزوّد كييف بنظام صاروخي للدفاع الجوي، من طراز سامب/تي الفرنسي-الإيطالي. لكن بايدن أبدى تخوّفه من تفوّق الجيش الروسي القوي، محاولاً إقناع دول الناتو بأنّ الحلف يسعى إلى تعزيز ارتباط أوكرانيا بالحلف وهو مسار نحو نيلها العضوية. وكان وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن قد استقبل نظيره الأوكراني ديمترو كوليبا في العاصمة الأمريكية واشنطن، معلناً أمامه عن حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا خلال القمة.
الجدير بالذكر أنَّ جدول أعمال الرئيس بايدن خلال القمّة يتضمّن لقاءً ثنائياً مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ولقاءً آخر مع رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر بعد فوز حزب العمال الساحق في الانتخابات البرلمانية البريطانية الأخيرة. وعلى هامش القمة تستضيف غرفة التجارة الأميركية، منتدى الصناعة الدفاعية لقمّة (الناتو). وتعدّ القمة هي الأولى التي يشارك فيها العضوان الجديدان السويد وفنلندا. ويشارك في القمة الاتحاد الأوروبي ودول على الجبهة الشرقية لأوروبا مثل جورجيا ومولدوفا والبوسنة والهرسك، حيث يدرك قادة الحلف تزايد القوة العسكرية والاقتصادية الروسية التي يمكن أن تساهم بزعزعة استقرار هذه الدول.
من القضايا التي تقلق بايدن والعديد من قادة دول الناتو، حالة الحذر والترقب والاستعداد لما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية الأميركية من نتائج، نظراً لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي أحد الأعضاء المؤسّسين للحلف، وتساهم بأكبر جيش في الحلف. وما زالت تصريحات الرئيس السابق ترامب حول تشجيع جمهورية روسيا الاتحادية على القيام بكل ما تريد ضد الحلفاء الذين لم يدفعوا فواتيرهم وما ترتب عليهم من استحقاق، تثير قلقاً واسع النطاق في القارة الأوروبية حول السياسات التي سيقدم عليها ترامب في ولايته الثانية تجاه حلف الناتو.
وقد هدّد ترامب مراراً بالانسحاب من الناتو، وهو ما يعني تقويض الحلف من خلال حجب التمويل الأميركي الهائل، واستدعاء القوات العسكرية الأميركية من أوروبا، وحتى دون فوز بايدن على ترامب يسود القلق الحكومات الأوروبية من تراجع تدفق المساعدات الأميركية الكبيرة جداً، ما يزيد من فرص تقدّم روسيا الاتحادية على كل الصعد ويؤدّي حسب الرأي الأوروبي إلى زعزعة الاستقرار. ويعدّ الأوروبيون بالفعل خططاً ومشاريع طوارئ لإدارة ترامب المستقبلية.
ويدرك الساسة والدبلوماسيون أنَّ ترامب إذا عاد إلى البيت الأبيض قد يختار قطع الدعم العسكري لأوكرانيا، ويُمكّن روسيا الاتحادية من تعزيز وجودها وسيطرتها على الأراضي التي استعادتها في أوكرانيا، لذا يرى قادة حلف الناتو أنَّ أفضل طريقة لضمان أمن أوكرانيا على المدى الطويل هو منحها المزيد من القدرات العسكرية لإيقاف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتصدّي لها، والعمل على هزيمتها، وهو ما يعني تسريع تسليم أنظمة الدفاع الجوي لأوكرانيا بنظام صواريخ باتريوت الأميركية الجديد، ونظام صاروخي للدفاع الجوي، من طراز سامب/تي الفرنسي-الإيطالي، والطائرات والصواريخ الطويلة المدى وتطوير إنتاجها الدفاعي لتقليل اعتمادها على الغرب الأمريكي ـ الأوروبي، في حين شهدت أوروبا انتخاباتٍ وطنية وإقليمية أدَّت إلى صعود التيارات الشعبوية اليمينية المتطرفة التي أثارت الشكوك في مدى أهمية حلف شمال الأطلسي، وهو ما يساهم بتغيير الاتجاهات السياسية في جانبي المحيط الأطلسي.
لقد كان لتصريح ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أهمية حين ركَّز على ثلاثة مواضيع، الموضوع الأول هو تعزيز دفاع الحلفاء والردع، والموضوع الثاني هو دعم جهود أوكرانيا للدفاع عن نفسها، والموضوع الثالث هو الاستمرار في تعزيز وتقوية روابط الشراكات العالمية لحلف الناتو وخاصة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
إنَّ تركيز حلف الناتو من خلال وضعه خططاً استراتيجية كالتي وضعها في قمة مدريد قبل عامين على جهود تعزيز الدفاع والردع، دفع قمة واشنطن إلى تنفيذ تلك الخطط لردع أي هجوم والدفاع عن التحالف من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي وتعزيز القيادة والسيطرة والتدريبات الدفاعية الجماعية ورفع مستويات الاستعداد. وهذا يعني زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بما يتجاوز 2% وتحويل الإنفاق إلى معدات عسكرية وقدرات حيوية مثل الدفاع الجوي والصاروخي والدفاع السيبراني بما يخفّض من احتمالات خوض حرب طويلة الأمد، مترافقة مع محادثات حول انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وخاصة بعد توقيع الاتحاد على التزامات أمنية مشتركة لدعمها على المدي الطويل، كما وافقت مجموعة السبع الصناعية على إقراض أوكرانيا أكثر من خمسين مليار دولار أمريكي من الأصول الروسية المجمَّدة لديهم.
هناك حديث بين أعضاء الناتو حول الموافقة على فكرة ستولتنبرغ إعلان الالتزام بتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا لمدة خمس سنوات بقيمة مئة مليار دولار أمريكي أو الاكتفاء بمستويات دعم تصل إلى نحو أربعين مليار دولار سنوياً، بما يجعل تلك المساعدات أكثر استقراراً تمهيداً لوضع أوكرانيا على الطريق لتصبح شريكاً قادراً عسكرياً على الانضمام بسلاسة إلى حلف شمال الأطلسي مثل السويد وفنلندا. وكانت جميع دول مجموعة السبع قد وقّعت اتفاقاتٍ أمنية ثنائية مع أوكرانيا ومنها اتفاقية مدتها عشر سنوات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى مع اليابان، كما وقّع الرئيس الأوكراني العديد من الاتفاقيات الأمنية مع ما يصل إلى عشرين دولة من الدول الأعضاء بالناتو، وهناك احتمالات لإبرام اتفاق مماثل مع كوريا الجنوبية بعد الاتفاق بين روسيا الاتحادية وكوريا الديمقراطية وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة بيونغ يانغ.
والشراكات في منطقة المحيطين الهادئ والهندي موضوعة على جدول أعمال القمة، حيث يمرّ نحو أربعين بالمائة من التجارة الأوروبية عبر بحر الصين الجنوبي، وكل ذلك ترافق مع مخاوف من التعاون العسكري الروسي المتزايد مع الصين وكوريا الديمقراطية. وتشارك في القمة أربع دول شركاء للحلف هي أستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا واليابان.