“لا شيء هناك” والرمزية المشهدية
حلب ـ غالية خوجة
تتحرك قصيدة الشاعر حسن عاصي الشيخ بين المعنى والكلمة وكأنها تحزم دلالات الذات والآخر بصور شعرية، تشفّ بكثافتها، وتسرد حكاياتها، وتمزج بين اللغة البصرية ومشاهد المخيلة، وحواس الحياة اليومية، لتتفاعل مع أبعادها وكأنها على المنصة بمجتمعها وبيئتها،عاكسة ما يتداخل من فلسفة الشاعر مع الواقع والتصورات، ما يمنحنا قصيدة مشهدية، تفلسف الفضاءات المتداخلة، فتنفي لتثبت، مستدرجة العالم الخارجي إلى أعماق الشاعر، وأعماق الشاعر إلى العالم الخارجي، ضمن معادلة تحرص على التناغم، ليكون بطلها المتلقي كقارئ ومستمع، مرتكزاً على إيقاعات المعنى وحواس الكلمة ونبضات الروح، وهذا ما نلمسه في قصيدته “لا شيء هناك” التي ألقاها مع قصيدة أخرى وجدانية في أصبوحة شعرية مشتركة مع كل من الشاعر القدير سعيد رجو، والشاعرة الشابة رولا عبد الحميد في مقر فرع حلب لاتحاد الكتّاب العرب.
تبدأ القصيدة من نفي الموجودات في المكان، لتعيد صياغتها بمدلولات تصويرية جديدة “لا عتمة ولا ضوء”، وهذا يدفع المتلقي للتساؤل المشوق، ليجيبنا الشاعر: “والذي سيكون أحلى، ما يزال يبيع الوهم”، لعله يشير إلى العديد من الأبطال في شخصية واحدة، هو الآتي، أو العراف الأعمى المتأرجح بين مهنة بيع الوهم، وقيادة “جثثنا إلى الأقبية الرطبة”، متسائلاً عن جدوى “لا…مدوية أن تشتم كل البساتين الخاوية”، منتقلاً إلى توصيف الحال الذاتي والجمعي بترميز صوري مشهدي “ونحن ما زلنا نذوي كعمود عتيق على واجهة متحف رجيم”، يعكس التشابك بين الأنا الجمعية وصمودها الحالي مثل عمود أثري تقف في مكانية مصابة وموصوفة بالمتحف ودلالاته الماكثة في الماضي.
ويتكرر عنوان القصيدة ثانية “لا شيء هناك” ليضيف إليه “ولا هنا”، لينقل الصور الرمزية إلى “الوجود”، ويضعه في فضاء زمني مختزل في “لحظة” لكنها “طويلة”، ويائسة لدرجة يجعلها الشاعر “تشنق نفسها”، لكن، أين؟.
إنه هناك، حيث يختار لها شاعرها “خلف ستارة مسرح مظلم”، وبذلك، تنتقل عناصر القصيدة من اللاشيء إلى عناصرها الموجودة، من مكانية المتحف المتخيل، إلى منصة مسرح حياتي آخر، يعاني العتمة وغياب الحضور، بينما الممثلون فهم “عميٌ”، و”يلاحقهم النحل الشرس”، تاركاً للمتلقي أن يتخيّل أية مسرحية هي الأحداث التي تجري على منصة القصيدة، وأبطالها، ومن يهاجمهم، ليفكّ البنية الدلالية ويسرد لذاته الحوار والحكاية والمونولوغ.
وتتكرر للمرة الثالثة لازمة العنوان، لتؤكد “اللا شيء” الذي ينطلق من وراء ستارته كل شيء، فتتضح، ببطء، دلالاته مع الظلال المتحركة داخل الصور الشعرية التي تضعنا في مشهدية جديدة بطلتها “الأنثى” المشار إليها بـ”إلاّ ظِلُّ امرأة”، وهذا الظل يكاد لا يُرى، لأنه “على شاطئ بحر أسود”، وتتراكم الدلالات المظلمة مع حالتها المحترقة، وتكهنات شبحية توحي بأنها قد تكون شاعرة وتنتظر “عشيقاً ابتلعه البحر”، ولكنها تتخذ هيئتها الدادائية حين تبدأ بالانهيار مثل “كيس رمل مثقوب”، ما زالت حباته تنتشر مثل اللحظات كناية عن الزمان وهو يتسرب إلى ما لا نهاية.
أمّا بعد اللازمة الرابعة “لا شيء هناك” يقول “لا أحد”، لكنّ “أنا” الشاعر تحضر لتعبّر عنه وهو مع “الضوء” جالساً على “سجادة بالية” في مكانية لا تلبث أن تتضح مع الصورة اللامتوقعة التالية “وبرفق شديد، أدق المسامير لأسند جثتي إلى الحائط”، حالة من حياة وموت وضوء وعتمة وأعماق وآخرين، يتابعها الشاعر برسم “تلويحة أخيرة”، لكنْ، لمن؟ يتابع: “لرجل أعمى، في غرفة تحترق”، وهنا، يتوقف المقطع فاسحاً للدلالات فرصة انتشارها في الصورة المشهدية وحالتها النفسية وفقدانها لكل شيء.
وتعود اللازمة إلى الظهور في المقطع الخامس، مرتفعة برموزها إلى مقام الشطحة، وتحولاتها بين البكاء الكاشف والمتألم ورقصها المولوي، وإشاراتها المنعكسة من حضور “النسيمي”: “لا شيء هناك، لا زاوية تصلح للبكاء، أو للرقص، حتى ضريح النسيمي، ما عاد يتكئ على جدار الحروف”، ولا تتوقف الصورة الكثيفة عن تحولاتها، لأنها تمتزج مع صيرورة النسيمي الذي صار “نهراً من دم يبحث عن شكل جديد للموت”.
إلاّ أن لازمة “لا شيء هنا” السادسة، تنبثق بهيئة إعادة الصياغة للأعماق: “وأنا أرتّب كهوفي”، وهذا الترتيب للأمكنة المجوفة النفسية بصواعدها ونوازلها وصداها وما يتحرك فيها من غوامض، من أجل “امرأة” فلسف حضورها الشاعر “كانت ستأتي”، لكنها “اختارت أن تصبح نحلة” أو كائناً آخر يعانق البرق.
وتحتكم اللاشيئية بلازمتها السابعة فـ”لا شيء يصلح لشيء”، ووحده الشاعر متهم بتحريض “الغيم” و”إطلاق الأسئلة الماكرة عن الحرية والحب”، متهم بالموت والحب والحياة مع ابتسامة الحبيبة المتكررة “كرسالة قادمة من عالم آخر” تضاف إلى تحولاتها المشتبكة مع “الضوء الذي لا يبصره الآخرون”.