تحقيقاتصحيفة البعث

العزلة ترخي بظلالها على حياة الكثيرين.. هل من حلول؟

ليندا تلي

من منّا لم يمرّ بأوقات كان فيها وحيداً أو شعر فيها بالوحدة، مع الانتباه إلى ضرورة التمييز بين شخص يشعر بالوحدة لأنه حقّاً وحيد، وآخر اختار أن يكون وحده، فما هي أسباب الشعور بالوحدة وما آثارها على الصحة الجسدية والنفسية؟ وكيف نعمل على إدماج من يشعرون بالوحدة في المجتمع للنهوض به؟.

مثمرة وضارة 

في رصدٍ لعدد من الآراء، كان هناك تفاوت وتضارب، فهناك من رأى أن العزلة الاجتماعية تعطينا القدرة على تنظيم أمورنا الحياتية، فهي زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله حيث لا مفرّ من المواجهة، إذ عندما أكون وحدي يمكنني أن أكوّن نفسي، في حين رأى آخرون أن مخالطة الناس تجلب المشكلات والمتاعب، ولكنّها أفضل من العزلة باعتبارها تسبّب التوتر والضغط النفسي، وهناك من رأى انغماسه في كتبه ورواياته مبرراً حقيقياً لعزلته، وهناك من رأى أن العزلة الطوعية مثمرة عندما يستطيع الشخص تنظيم مشاعره “بصورة فعّالة”، ويستطيع الانضمام إلى المجموعة عندما يريد، وإذا كان يستطيع الحفاظ على علاقات إيجابية خارجها.

مشكلات جسدية 

الدراسات العالمية بيّنت أن الوحدة المزمنة يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية، أو السكتات الدماغية، أو السرطان، أو الخرف، إذ إن الأشخاص الوحيدين لديهم مستوى أعلى من هرمون الإجهاد الكورتيزول في دمائهم مقارنة بالأشخاص الذين لديهم العديد من الاتصالات الاجتماعية، كما يضاعف هذا الشعور من خطر الإصابة بخرف الشيخوخة، في حين تؤدّي إلى مشكلات جسدية، فهم غالباً ما يعيشون بشكل غير صحي، إذ يتمّ تعويض نقص العلاقات الاجتماعية أحياناً بالمزيد من الطعام أو الكحول أو النيكوتين، كما يمكن أن يؤثر في وظائف نظام المناعة لدينا، ما يضرّ بنوعية النوم، في وقت يمكن أن تعادل فيه آثار الوحدة المميتة تدخين 15 سيجارة يومياً.

وحيدون وسعداء! 

المرشدة النفسية نسيبة مسلم ترى أن الشعور بالوحدة له معانٍ عدّة تختلف حسب نظريات علم النفس، فهي ليست مجرّد شعور عابر، بل حالة نفسية في كثير من الأحيان لا يكون لها علاقة بالبقاء وحيداً، إذ إنّ الكثير يعيشون وحدهم لكنّهم سعداء، وقد يشعر الشخص بوحدة شديدة وحزن حتى مع وجود الكثير من الأشخاص، فالوحدة إحساس أليم يشعر به الفرد بانخفاض تقدير الذات وعدم احترام الآخر.

كما أن من أسباب الميل إلى الشعور بالوحدة والعزلة، عدم الثقة بالنفس، وقد ينشأ الشخص منذ الصغر وحيداً أو إذا كانت لديه مشكلة أو عيب ومَن حوله يتنمّرون عليه، فالإنسان الوحيد غير قادر على التواصل الاجتماعي لأنّه يفتقر إلى القدرات المعرفية ويصبح أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية كبيرة.

المرء مع مَن لا يفهمه سجين

وترجع مسلم إحساس الوحدة رغم ازدحام الحياة من حولنا إلى عدم وجود علاقات صحيّة بين الشخص ومعارفه بما يلبّي احتياجاته النفسية، من أمان وألفة، إضافة إلى وجود الكثير ممن حولنا الذين لا يشعرون بنا أي لا معنى لوجودهم، لأنّهم يتواصلون معنا بطريقة غير مريحة، كما يقول شمس الدين التبريزي: “إن المرء مع مَن لا يفهمه سجين”.

عادات خاطئة

ولم تغفل مسلم تأثير الوضع الراهن في المجتمع على الشباب بين سن الـ 16 و24 عاماً الأكثر إحساساً بالوحدة بسبب الحياة العصرية والأجهزة التكنولوجية التي يجدون فيها نوعاً من الاستقلالية، مشيرة إلى أن الشعور بالوحدة له آثار تنعكس على صحة الإنسان الذي يتكون من “العقل والنفس والجسد” والتقصير في تغذية أي جزء منهما ينعكس على باقي الأجزاء، حيث يؤثّر شعور الشخص بالوحدة في صحته النفسية والعقلية والجسدية لأنّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي وجلوسه وحيداً يحفّز ظهور مشاعر التوتر والقلق، وبالتالي الجسم يفرز هرموناتٍ تؤثّر فيه مسبّبة إصابته بالاكتئاب، وبالتالي تجعله يدمن على عادات حياتية خاطئة تؤدّي إلى تفاقم مشكلات في النوم تنعكس على صحته مسبّبة أمراضاً عدّة، مثل إضعاف مناعة الجسم بسبب إفراز الهرمونات عند الغضب وارتفاع ضغط الدم والابتعاد عن الرياضة التي تؤدّي إلى السمنة والسكر من النمط الثاني، فالوحدة تزيد من تدني القدرات العقلية لأنّها تؤثر في قدرة العقل على التفكير وحلّ المشكلات، كما تزيد من فرص الإصابة بالزهايمر.

تدهور الصحة النفسية 

الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي وفق الباحثة الاجتماعية ندى بعبع، فهو بالفطرة يجب أن ينتمي ويتفاعل في الوسط المحيط به، إذ تمثل العلاقات الاجتماعية جزءاً أساسياً من حياة الإنسان حيث يسعى إلى التواصل والاندماج في المجتمع، ومع ذلك يمكن أن تطرأ ظروف مختلفة تؤدي إلى العزلة الاجتماعية، وهي حالة تتميّز بالانفصال عن الآخرين وقلّة التواصل الاجتماعي ما يتسبّب في تأثيرات عميقة على الصحة النفسية للفرد.

فالعزلة الاجتماعية هي حالة تعيشها الشخصية عندما تشعر بالانفصال أو الابتعاد عن الآخرين على الصعيدين العاطفي والاجتماعي، ويمكن أن تكون هذه الحالة ناتجة عن عوامل مختلفة مثل التوتر النفسي، والقلق، والاكتئاب، أو حتّى انخراط طويل الأمد في العمل أو الأنشطة الفردية، كما أن العزلة الاجتماعية تؤثر في الصحة النفسية من حيث زيادة القلق والاكتئاب، وقد تسهم في تدهور الصحة النفسية وزيادة مخاطر الأمراض النفسية وضعف الأداء العقلي، ناهيك عن التأثير في النوم وتقليل جودة الراحة الليلية، وهناك تأثيرات جسدية للشعور بالوحدة مثل زيادة ضغط الدم ونقص المناعة.

تخفيف الوحدة 

ولفتت الباحثة في سياق حديثها إلى وجود بعض الأمور التي تخفّف من حدّة الشعور بالعزلة، مثل الانخراط في الأنشطة الاجتماعية والتواصل مع الآخرين والمشاركة في العمل التطوعي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديد أهداف صغيرة لتحقيقها مع ضرورة التحلّي بالصبر في هذه العملية، والمشاركة في الأنشطة الرياضية، وهنا تشدّد بعبع على أن العالم الافتراضي يعدّ بشكل عام ذا حدّين، ولكن حسب الحالة وحسب تفاصيلها، فإمّا أن يؤدّي إلى التغلب على العزلة، وإمّا أن يزيدها، لذلك فإنّ إدراك التأثير الذي يمكن أن تسبّبه الوحدة هو الخطوة الأولى للتصدّي له.

هامش 

تعدّ اليابان موطناً لمئات الآلاف من الأشخاص الذين يعيشون في عزلة شبه تامة عن المجتمع المحيط بهم، بينما يعرف بظاهرة الهيكيكوموري، في حين أن هناك بعض ضحايا تلك الظاهرة الذين استطاعوا العودة والاندماج في المجتمع مرة أخرى، إلا أن هناك آخرين وصلوا إلى حالة مزرية لدرجة جعلتهم يتوقون إلى القتل الرحيم.

منظمة الصحة العالمية دقّت ناقوس الخطر، واعتبرت أن الشعور بالوحدة من بين أهم المخاوف الصحية العالمية، إذ يؤثر في كل جانب من جوانب الصحة والرفاهية والتنمية، حتى إنّ المملكة المتحدة عيّنت عام 2018 أول وزيرة للوحدة في العالم باعتبار أن الشعور بالوحدة هو الحقيقة المحزنة لكثير من الناس.

في الختام جميعنا متفقون على أننا كائنات اجتماعية نحتاج إلى الآخرين لنكون ناجحين ومعافين، وأنّ إحاطة أنفسنا بالآخرين وتعزيز علاقاتنا هما الترياق لنعيش حياة سعيدة وصحية وجيدة، ولكن لا ضير في الحصول على قدر من العزلة كلما أمكن ذلك، من خلال التأمل، أو التنزّه منفرداً وفق ما نصح خبراء.