سدّ فجوة الولايات المتحدة في التجارة العالمية
عناية ناصر
واجه نظام التجارة العالمي تحدّياً يتمثل في زيادة التعريفات الجمركية التي قدّمها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وحافظ عليها الرئيس جو بايدن، والتزامات كلا المرشحين بزيادة التعريفات الأمريكية بشكل أكبر بعد انتخابات عام 2024. وقام كلا الرئيسين بتقويض فعالية منظمة التجارة العالمية من خلال تحييد آلية تسوية النزاعات والانسحاب من الجهود الرامية إلى تحسين وتوسيع قانون التجارة العالمي.
كان أحد الإجراءات الأولى التي اتخذها ترامب في كانون الثاني 2017، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، كما رفضت إدارة ترامب الموافقة على أعضاء جدد في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، ما سمح بترك العديد من القضايا دون حل. وقد أوقفت هذه الخطوات عمل المؤسسة الأكثر قدرة على الاستمرار في توسيع نطاق القانون التجاري العالمي بين الدول التجارية ذات التفكير المماثل، كما قوّضت عملية إنفاذ القانون التجاري الدولي الحالي. وبعد تنصيب بايدن في كانون الثاني 2021، سرعان ما أوضح أنه لن يغيّر موقف الولايات المتحدة بشأن أي من هاتين القضيتين.
يعدّ توسيع القانون التجاري العالمي أمراً ضرورياً لأن نظام التجارة العالمي قد مرّ بتغيّرات كبيرة منذ عام 1995، ولكن شرط الإجماع كان سبباً في عرقلة إصلاح منظمة التجارة العالمية.
قادت الولايات المتحدة في عهد الرئيسين السابقين جورج دبليو بوش وباراك أوباما الطريق في تصميم اتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، وهي اتفاقية غير تمييزية تم التوقيع عليها في عام 2016 وقامت بموجبها الدول ذات التفكير المماثل بتوسيع قانون منظمة التجارة العالمية. لقد أوضح أوباما سبب التفاوض على اتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ” عندما قال في عام 2015: “يتعيّن علينا أن نتأكد من أن الولايات المتحدة – وليس دولاً مثل الصين – هي التي تكتب قواعد هذا القرن للاقتصاد العالمي”.
وبعد فشل الولايات المتحدة في التصديق على اتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، شرعت الدول الموقعة الإحدى عشرة الأخرى في تنفيذ “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2018.
إن قسماً كبيراً من أجندة اتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” يتقاسمها الاتحاد الأوروبي في اتفاقياته التجارية الخاصة، ودول جنوب شرق آسيا غير الراغبة في المشاركة بكل شيء في “اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، ولكنها ملتزمة بـ”الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”. انضمّت المملكة المتحدة إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ في حزيران 2023. وتأتي الصين وتايوان في المرتبة التالية في قائمة انتظار الانضمام، تليها دول أخرى في آسيا وأمريكا الجنوبية.
وكعملية استئناف بديلة، أنشأ 47 عضواً في منظمة التجارة العالمية، في عام 2020، بما في ذلك أستراليا وكندا والصين والاتحاد الأوروبي، اتفاقية “ترتيبات تحكيم الاستئناف المؤقتة المتعدّدة الأطراف”، التي يعترف الموقعون عليها بالتحكيم الملزم بشأن القرارات المتنازع عليها الصادرة عن هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية.
أعاقت جائحة كوفيد-19 المزيد من الاستجابات، ما أدّى إلى تقليص الاجتماعات المباشرة في عامي 2020 و2021. وفي عام 2023، زاد عدد أعضاء اتفاقية “ترتيبات تحكيم الاستئناف المؤقتة المتعددة الأطراف” عندما أصبحت اليابان الدولة الموقعة رقم 53 على “ترتيبات تحكيم الاستئناف المؤقتة المتعددة الأطراف”. وقد تعزّزت صدقية قانون ترتيبات تحكيم الاستئناف المؤقتة المتعددة الأطراف عندما قبلت الصين قرار منظمة التجارة العالمية في نزاع مع أستراليا بعد أن أثارت اتفاقية “ترتيبات تحكيم الاستئناف المؤقتة المتعددة الأطراف” احتمال خسارة الاستئناف.
وعلى الرغم من هذه الجهود المبذولة للتغلب على تقاعس الولايات المتحدة، فإن خفض مستوى منظمة التجارة العالمية باعتبارها المؤسسة التي تحدّد قانون التجارة العالمي وحل النزاعات يجعل من الصعب معالجة قضايا تجارية أخرى، مثل الجوانب التجارية للسياسة الصناعية وغيرها من إعانات الدعم. في نيسان 2022، نشر صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية نداء صريحاً لتجديد برنامج العمل ومشاركة صانعي السياسات في السياسة الصناعية. ومن بين المواضيع الملحة الأخرى تحقيق التوازن بين السياسات التجارية والحتمية العالمية لمعالجة تغيّر المناخ وتنفيذ التعديلات الحدودية لمعالجة ضرائب الكربون المختلفة. ازدهرت التجارة العالمية في عامي 2022 و2023 مع تعافي الاقتصادات من جائحة كوفيد-19. لكن نظام القانون التجاري الذي نشأ عن منظمة التجارة العالمية تعرّض للتهديد بسبب التحوّل في المواقف الأمريكية منذ عام 2016. وتعمل الدول التجارية الكبرى الأخرى على توسيع نطاق قانون التجارة العالمي وتعزيز الامتثال، وبذلك تتمكّن من تحقيق مكاسب أكبر من التجارة حتى دون تعاون الولايات المتحدة.
وإذا نشأ نظام مؤسسي جديد للتجارة العالمية يقوم على اتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” الموسّعة، وإذا التزم أعضاء “الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية” والاتحاد الأوروبي بالتوافق، فسوف يستمر الاقتصاد العالمي في العمل، ولكن بمستويات مختلفة من الالتزام بقواعد التجارة. سوف يلتزم أعضاء “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” و”الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية” ودول الاتحاد الأوروبي بأعلى قواعد التجارة العالمية القياسية ويقبلون عمليات حل النزاعات. وهناك مجموعة ثانية، هي الهند وجنوب إفريقيا والعديد من الاقتصادات النامية، سوف تقبل القواعد الحالية لمنظمة التجارة العالمية، ولكن ليس أكثر من ذلك.
إن تصرّفات الدول التجارية الأخرى مهمة، فكلما زاد حجم مجموعة الدول التجارية المهمة التي تقبل قواعد “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، زاد الحافز لدى الولايات المتحدة لإعادة الانضمام إلى عملية وضع القوانين التجارية.
تمثل الولايات المتحدة من إجمالي الناتج المحلي العالمي البالغ 106 تريليونات دولار أمريكي في عام 2023، 25 في المائة، والصين 18 في المائة، ودول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة 16 في المائة، ودول اتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ الـ12، 15 في المائة.
يمثل الاتحاد الأوروبي وأعضاء اتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، بالإضافة إلى الصين والدول الآسيوية الأخرى التي تعتزم الانضمام إلى “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ”، أكثر من نصف الإنتاج العالمي، فهم يشكلون معاً قوة مقنعة، ولكن من المرجح أن ينتظر عكس مواقف الولايات المتحدة تجاه قواعد التجارة العالمية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني 2028.