دراساتصحيفة البعث

المأزق السياسي الذي يواجه فرنسا والرئيس ماكرون

 ريا خوري

بعد الانتهاء من الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي أدّت إلى عدم فوز اليمين الفرنسي المتطرّف بقيادة (التجمع الوطني) الذي تتزعمه مارين لوبان بالأغلبية المطلقة، وحلوله في المركز الثالث، تمت إزاحة الكثير من الصعوبات والعقبات والحمل الثقيل عن كتفَي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث من المنتظر أن يعلن التحالف اليساري الذي فاز في الانتخابات التشريعية الفرنسية عن مرشحه لتولّي منصب رئيس الحكومة نهاية الأسبوع أو الأسبوع القادم. ومن بين أبرز الأسماء المرشحة لخلافة رئيس الوزراء غابريال أتال الذي دعاه ماكرون للبقاء في منصبه بعد تقديمه استقالته، كل من رئيس الحزب الاشتراكي أوليفييه فور، والنائبة عن حزب فرنسا الأبية السيدة كليمانس غيتي وكذا السيدة كليمنتين أوتان المنشقّة عن أقصى اليسار، وزعيمة المدافعين عن البيئة السيدة مارين تونديلييه، وخاصة أنَّ فوز اليسار الفرنسي وحصوله على نحو مائة واثنين وثمانين مقعداً في الجمعية الوطنية من دون تحقيق الأغلبية التي تصل إلى مئتين وتسعة وثمانين مقعداً، وضع الرئيس الفرنسي في موقف صعب جداً اتسم بالقلق من تنامي التحالفات الأخرى، إذ بالنسبة إليه اليسار الفرنسي واليمين الشعبوي المتطرف في كفة واحدة، وخياره بتكليف رئيس الحكومة الجديد هو بين السيئ، والأسوأ، وليس بين الجيد والأجود، وكان قد حذّر من أنَّ فوز اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، أو اليسار، قد يشعل (حرباً أهلية) داخلية لا تُحمَد عقباها.

لذلك، لم يقبل ماكرون استقالة رئيس الحكومة الحالي، غابرييل أتال، وطلب منه البقاء في منصبه وإدارة البلاد بانتظار البحث في البدائل التي تمكّنه من استبعاد اليسار عن السلطة، إذا تمكّن من ذلك، من خلال إقامة تحالف سياسي بين حزبه (النهضة)، وهو الجمهورية إلى الأمام (حزب سياسي وسطي تقدّمي وليبرالي اجتماعي) والأحزاب الأخرى اليمينية التقليدية، مثل (حزب الجمهوريين) وهو حزب سياسي فرنسي من يمين الوسط ووسط اليمين، أو العمل على تفكيك (الجبهة الشعبية الجديدة) اليسارية التي احتلت المركز الأول من خلال اجتذاب الاشتراكيين، وحزب الخضر، بعيداً عن حزب (فرنسا الأبية) من أقصى اليسار والشيوعيين، لكن يبدو أن هذه المحاولة لم تَجِد تجاوباً حتى هذه اللحظة بالإصرار على تحالف (الجبهة الشعبية الجديدة). فقد قدّمت القوة اليسارية الرئيسية الأخرى اقتراح النائبة كليمانس غيتي لأنها تحظى بشعبية كبيرة بين النشطاء السياسيين، وهي أقل إثارة للانقسام بكثير من زعيم الحزب جان لوك ميلانشون الذي يتمتع بشخصية قوية وكاريزما، لكن  البعض ينفر منه حتى في صفوف معسكره، كما يُطرح أحياناً اسما كليمنتين أوتان المنشقة عن حزب فرنسا الأبية، وزعيمة المدافعين عن البيئة مارين تونديلييه.

من هنا تبدو عملية اختيار رئيس الحكومة معقَّدة إلى حدٍ كبير في ظل برلمان منقسم وغير متماسك، على الرغم من أنَّ النظام الانتخابي على دورتين هدفه أساساً الحصول على أغلبية برلمانية كبيرة، على حساب الأحزاب الصغيرة، لتجنيب البرلمان أي انقسام يعجزه عن القيام بدوره التشريعي، وهو ما حصل في الانتخابات  التشريعية الأخيرة.

ومع حضور العديد من القوى السياسية الفرنسية إلى الجمعية الوطنية، أوحى نواب اليسار باستبعاد توسيع قاعدتهم السياسية باتجاه يمين الوسط، في حين أنهم لم يحصلوا سوى على مائة وتسعين مقعداً نيابياً، بعيداً عن الأغلبية المطلقة. وكان منسق (فرنسا الأبية) مانويل بومبار قد حذَّر من أن اليسار سيطبّق برنامجه وأن على (كل من التكتلات تحمّل مسؤولياتها، فإما التصويت على مقترحاته.. وإما الإطاحة بحزب فرنسا الأبية).

الجدير بالذكر أنّه منذ قيام الجمهورية الخامسة في فرنسا عام 1958م بانتخاب الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول، لم يتم انتخاب أغلبية برلمانية نسبية سوى مرتين، المرة الأولى مع ميشال روكار عام 1988، والمرة الثانية مع رئيس الوزراء الحالي، غابرييل أتال.

وبما أنه لا يوجد نص دستوري في فرنسا يجبر رئيس الجمهورية على اختيار هذه الشخصية، أو تلك، لتولّي منصب رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء، في ظل عدم وجود أغلبية برلمانية مطلقة، وبما أن الدستور الفرنسي لا يضع أي فترة زمنية محدّدة لتعيين رئيس الحكومة الجديد، من دون أن تمتدّ فترة طويلة أكثر من اللازم، فإن أمام ماكرون هامش مناورة سياسية لتجنّب تكليف شخصية يسارية، إذا تمكّن من ذلك، وخاصة أن تحالف (الجبهة الشعبية الجديدة) الذي يحظى بأغلبية نسبية، يصرّ على أن يكون رئيس الحكومة من حصته، ومن بين صفوف حزبه، وهو يقوم بحراك واسع في صفوفه للاتفاق على مرشحه لهذا المنصب، وربما يكون الرئيس السابق فرانسوا هولاند، أو أوليفييه فور زعيم الحزب الاشتراكي، أو مارين توندلييه زعيمة (حزب الخضر)، أو زعيم الحزب الشيوعي فابيان روسيل، من بين الأسماء المطروحة على جدول تشكيل الحكومة. وقالت توندلييه: إن عملاً جماعياً يسود داخل الجبهة الشعبية الجديدة، وإنَّ القرارات المهمة ستتخذ بطريقة هادئة، وسلمية، وحازمة، متوافق عليها من الجميع، وبعد الاتفاق يتم رفع الاسم المرشح إلى رئيس الجمهورية ماكرون، لكن لا شيء دستورياً يجبر الرئيس ماكرون على تكليف هذا الشخص الذي يتم اقتراحه لتشكيل الحكومة.

ومع ذلك، فإن اليسار الفرنسي من أقصى اليسار بأغلبيته البسيطة، يحتاج إلى إقامة تحالف مع أحزاب صغيرة، وشخصيات مستقلة، لتشكيل أغلبية برلمانية كي يستطيع أن يحكم، كما هو حال “تحالف معاً” بقيادة (حزب النهضة) الذي يتزعمه الرئيس ماكرون، الذي حل ثانياً.