غسان كنفاني.. بيننا!
حسن حميد
ها أنذا، أعود من ندوة هذا العام المركزية حول “أدب النكبة/ غسان كنفاني أنموذجاً”، وأنا طيّ فرح لم أحسب له حساباً، ذلك لأنّ جمهوراً نوعياً تقدّم الحضور، وجله من الكتاب والأدباء والشعراء والفنانين، وجله أيضاً من الشبان، ذكوراً وإناثاً؛ لكأن هذا الجمهور جاء مستكشفاً لأمر مهم ينطق به سؤال مهم أيضاً، فحواه: هل بقي ما يقال عن غسان كنفاني الذي عاش عمراً قصيراً مداه ستة وثلاثون عاماً، تعددت فيه الأمكنة، مثلما تعددت فيه الظروف والأزمنة والأحلام، هذا العمر القصير الذي كان عليه أن يصنع حياة كاملة لأدب بهيج معافى، وحياة فكرية تنادي بالحقيقة الكاملة، والجوهر الكامل الذي يستحقه الإنسان، والمعرفة الكاملة للخير والشر، مثلما تنادي بالحرص الأتم على ترك أثر عصي على المحو والإذابة.
كنت، وبعد مرور اثنتين وخمسين سنة، على اغتيال غسان كنفاني، أتخوف على ذاكرة الناس من السهو والذبول والانكماش، وأتخوف من قولة المحقبين المزيفين (لم يبق قول يقال في التجربة الكنفانية!)، أو ما قد يقوله بعض المرجفين الحساد بأن كتابات غسان كنفاني أخذت أكثر من حقها في القول والبيان والحضور. ولكن، في هذه الندوة، فرح قلبي، ودق الدقة التي أناديه بها كي يصدقني ما أشعر به، حين رأيت قبول الجمهور وتنوعه، وكثرة الأدباء والفنانين والشبان، والإنصات الذي عمّ أرجاء القاعة، وما أعقب كلمات المحاضرين من لهفة الحضور لطرح الأسئلة، وتحريض الذاكرة، وإبداء الصور الأولى للتعرف إلى غسان كنفاني وأدبه وحياته التي اختتمت بالاغتيال الدموي الإسرائيلي عام 1972، في بيروت، ثم التعرف إلى كتاباته في المناهج الدرسية أولاً، ثم متابعتها حين انتشرت في الصحف والمجلات والكتب.
الحديث عن غسان كنفاني في هذه الندوة (2024) دار حول سبب حاجة المثقفين والأدباء والقراء إلى التواصل مع أدب غسان كنفاني المكتوب قبل نصف قرن، ولماذا يبدو طازجاً وحياً وذا تأثير، ويتحدّث عن مشاعرنا وأحلامنا، ناهيك عن أنه يتحدث عن حياتنا وما نرغب به، وعن جروحنا الغائرات وأسبابها، وعن سطوة المكان، وسطوة الزمان، وسطوة ما أسميناه بـ “قلة الحيلة”، وسطوة الأسئلة التي دارت حوله، وحول أدبه، والتي لم تلاق الإجابات عنها بعد، مثل هل لأن فلسطين لم تتحرر بعد مازال أدب غسان كنفاني حياً حاضراً وفاعلاً وقادراً على إيقاد نيران العقل والقلب معاً؟ وهل لأن الجرح الفلسطيني ما زال مفتوحاً على اتساع عجائبي وغرائبي هو ما يجعل قصص غسان كنفاني ورواياته دانية من أيدينا وقراءاتنا؟ والحق إن الإجابات كثيرة ومتعددة، لكن أوفاها في نظري هو أن ما كتبه غسان كنفاني هو أدب معافى وناجز بالدرجة الأولى، شأنه شأن أي أدب إنساني آخر واقف القيم النبيلة خوفاً عليها من جهة (في زمن ما)، وحرصاً عليها وتأييدا لها (في زمن ما آخر)، كيما تظل الحياة لائقة بالدفاع عن الجمال؛ بقولة أخرى، أدب غسان لم يتوسل الموضوع النبيل كي يصير أدباً جميلاً، أبداً، لقد كتب النص الجميل العارف بشروطه وأسراره وما يرمي إليه قبل أن يفكر بكتابة النص المهموم بالشأن الفلسطيني أو المأساة الفلسطينية.
أعني أنّ كتاباته، وإن بدت هويتها االفلسطينية عبر إشاراتها ودلالاتها ومسمياتها، هي كتابات إنسانية أرادت محو الظلم، وهشاشة الذات، والاستسلام المشين للقوة الباطشة، لقد دعت كتاباته إلى التبصر بقوة الحق، وقوة الخير، وقوة الجمال، والقول إن قوة الإنسان لا تحد ما دامت الكرامة حية راعشة في صدره.
وللتوكيد أشير، إلى أنّ غسان كنفاني في روايته (رجال في الشمس)، يكتب رواية إنسانية على غاية من الأهمية، لأنها بقدر ما تخص الشعب الفلسطيني هي تخص الإنسانية عامة، لأن الرواية تقول سطراً واحداً طويلاً فحواه: إن المسافرين الحالمين بالمكانة والعزة والفرح، لن يصلوا إلى ما حلموا به إن اختاروا الطريق الغلط، فالرجال الثلاثة، وهم فلسطينيون يمثلون ثلاثة أجيال فلسطينية، حين انطلقوا من سورية نحو الشرق من أجل الوصول إلى حلمهم (فلسطين)، اختاروا الطريق الغلط، لأنّ الطريق الموصولة إلى حلمهم (فلسطين) تقتضي منهم اختيار الطريق نحو الجنوب، ففلسطين ليست شرق سورية جغرافياً، وإنما هي جنوبها، ولذلك كان مصير رحلتهم ومصيرهم أيضاً هو “المزبلة” التي احتضنت أجسادهم مع أن ساعاتهم ظلت تدق؛ هذا الموضوع هو موضوع إنساني، موضوع له علاقة بالفطرة الإنسانية.
وقولة غسان كنفاني في روايته (عائد إلى حيفا) هي متمثلة ببعد إنساني غاية في الأهمية، يتمثل في الصراع بين ما عاشه “خلدون” من تربية بين أبويه وفي داره / وطنه، وبين ما عاشه، هو نفسه، من تربية لدى أسرة إسرائيلية أكثر ما حرصت عليه هو أن يصبح قاتلاً، وقد سدت لديه كل نوافذ الوعي، وكل الأسئلة، وجعلته يدور داخل شرنقة حديدية تؤمن بثنائية ضرورية هي: القناعة المطلقة بتفوق الذات من جهة، وانحطاط الآخر من جهة أخرى، أي أن الحياة والأمجاد والسعادة خلقت للإسرائيلي السيد، أما “الغوييم” الآخرون، فلهم الدونية والذل والاستعباد في آن، وهذه فكرة لتأييد الاستعلاء وكراهية الآخر قبل أن تكون فكرة خاصة بشعب أو أمة.
غسان كنفاني الذي اغتيل شاباً، ما زال شاباً في عام 2024، لأنّ دم القتيل في الأساطير والمأثورات الشعبية، تظل محمومة حتى تأخذ حقها في الحياة، ولا كف عن التحويم الكنفاني، ولا حياة له إلا بأخذ حقه ليعيش في عكا، مدينة ولادته، وأن يمشي آمناً في شوارع يافا، المدينة التي درس فيها المعاني الأولى للوطن، ولنراه يجلس أمناً على شواطئ طبريا يقرأ سير النبلاء الذين آمنوا بحرية الوطن والمواطن، وحرية النبل المعتقل في البلاد الفلسطينية منذ عام 1948، وحرية الفرح المأسور أيضاً في البلاد العزيزة ، شكراً لك غسان كنفاني على هذا الشباب الحي المعافى الذي هو معنا مثل ربيع متجدد على الدوام!
Hasanhamid55@yahoo.com