شوارعنا العربية قاموس ثقافي حضاري
غالية خوجة
تهتمّ البلاد العربية بتسمية شوارعها وأمكنتها العامة وصروحها الثقافية والعلمية والمعرفية لأهميتها في الحياة، وهذه التسميات مبنية على خلفية تاريخية وثقافية وسياحية وعلمية ومعرفية تعكس ذاكرة المدن وأزمنتها واهتماماتها وهويتها المستمرة باستدامة محورية ثابتة تحتفظ بها الأمكنة على مرّ الحقب والعصور.
وتقديراً للعقل البشري ومنجزاته، والشخصيات المفصلية الفاعلة في المشهد الحياتي الإنساني المتواصل، وتاريخ المدن وتراثها وأحلامها، نقرأ أسماء الكثير من المعالم المدنية، وأسماء الكثير من الشخصيات المساهمة في بنى الحياة المتنوعة وقيمها الأخلاقية والعلمية والأدبية، وهذا ما اعتادت عليه سورية، وغيرها من الدول العربية، كعرفٍ تكريمي حضاري يظهر في كلّ شارع.
والملاحظ أن الاسم ذاته يتكرّر في شوارع مدننا العربية، مثلاً أسماء الخلفاء الراشدين، وأسماء الشعراء والأدباء والأطباء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والبحاثة والحكماء والمؤرخين والجغرافيين والفلاسفة والمبدعين والعارفين والقادة القدامى والمعاصرين مثل المتنبي، أبو الأسود الدؤلي، عمر أبو ريشة، نزار قباني، خير الدين الأسدي، عباس بن فرناس، ابن عربي، ابن حيان، سليمان العيسى، ابن سينا، الشيرازي، التبريزي، جلال الدين الرومي، ربيعة الرقي، امرؤ القيس، عنترة بن شداد، محمد الغزي، ابن رشد، ليلى الأخيلية، المطران كابوجي، الرازي، السهروردي، حافظ الأسد، الشيخ زايد، جمال عبد الناصر، غاندي، شكري القوتلي، الملك فيصل.
كما تحضر أسماء المدن والعواصم والأقطار في شوارعنا العربية، مثل دمشق، حلب، القدس، بيروت، الرياض، الجزائر، تونس، المغرب، طرابلس، عُمان، عدن، صنعاء، مراكش.
ولا نستبعد أن تكون المسميات مرتبطة بكائنات لها أهميتها في حياتنا، مثل شارع الخيل، أو مرتبطة برمزية إيجابية كالضوء ودلالاته مثل جزيرة النور، أو رمزية لأحداث شعبية مثل القادسية، شارع الانتفاضة، شارع تشرين.
إضافة لكثير من منارات العلم والمعرفة وتسمياتها مثل المكتبات والجامعات والأسواق والأبواب والمتاحف الوطنية ومجامع اللغة العربية، والأزقة الأثرية، والقصور والحصون.
ويظلّ السؤال ملحاً للعابرين، خصوصاً، لجيلنا العربي الشاب: ترى، هل لفتتكم أسماء الشوارع؟ وما الأثر الذي رسمته في دواخلكم وأذهانكم؟ وهل بحثتم عن الاسم في مراجع البحث الورقية والإلكترونية؟
الملفت أن شوارعنا العربية كتاب ضخم بعناوين وفهارس مهّمة لا تُحصى، كتاب بعلامات ثقافية وشخصيات معرفية قد يكون أقرب إلى المعاجم والقواميس، ولكنه بحاجة إلى قراء يسترجعون معلوماتهم حول تلك الأسماء كمعالم إنسانية ومكانية وحضارية، ويستفيدون من تجربة تلك الشخصيات التي تعتبر “مؤثّرة” في معارف الحياة العالمية وعلومها ومجالاتها المختلفة، لتكون القدوة لمؤشر القلوب وبوصلة العقول ونقاء الأرواح، فلا يستطيع أحد التأثير عليها سلبياً كائناً مَنْ كان، لأن من أسّس بنيانه الداخلي على ثقافة جوهرية لا تزحزحه القشور، وبالتالي، لا ولن يهتمّ بالمؤثرين السلبيين لا سيما المتكاثرين تكنولوجياً، في كافة الوسائل والوسائط الاجتماعية.. لماذا؟
لأن الإنسان الذي تعب ويتعب في بناء ذاته من الأعماق بعقل واعٍ وفاعل، وبوجدانٍ معرفي متّزن، وضمير حيّ، وقيمٍ مضيئة، لن تستطيع هذه الوسائل ومؤثريها تفريغ محتواهُ المكين اليقيني والعلمي والمعرفي والثقافي والأدبي، ولأنه لن يقبل أن يكون هدفاً سهلاً من أهداف هؤلاء المؤثرين المتفرغين لتفريغ الإنسان من أخلاقه السامية وهويته العربية وثقافته الإنسانية وانتمائه الحضاري، بل تراه عارفاً بالكمائن والشِباك العنكبوتية والأهداف التي ينسجها المؤثرون المغرضون ليتلاعبوا بمكوناته النفسية والأخلاقية والروحية والعقلية وحياته الأسرية والمجتمعية بسهولة لأن أسلوبهم “دسّ السُمّ في الدسم”، ولأنه الكاشف لكل هذه الأساليب، فلن يتأثّر، بل سيكون هو المؤثّر، فيتبادل الأدوار، ويكون الأقوى في التأثير على ذاته والآخرين، وعلى هؤلاء المؤثرين الذين يردّ كيدهم إلى نحورهم بذكاء فاعل وأكبر من أيّ ذكاء اصطناعي ومَنْ يوظفه بطريقة سلبية تدميرية للذات والمجتمع والوطن.