الوطن عند الرحابنة وفيروز
أمينة عباس
يحلو دوماً للباحث غسان شاهين في محاضراته أن يبحر في عالم فيروز والرحابنة للعودة إلى زمن الغناء الأصيل والإضاءة على المعجزة الفنية التي تشكّلت على أيدي الثلاثي عاصي ومنصور الرحباني وفيروز، لذلك خصّص محاضرته الأخيرة التي ألقاها في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة للحديث عن الوطن عند الرحابنة وفيروز.
يقول شاهين: “ما من مطربة غنّت لوطنها بشجن وشفافية كفيروز، وما من شعراء حلموا بوطن جميل مرهف مفعم بالحبّ وتغنّوا به في قصائدهم كالأخوين رحباني الذين أدركوا أن لا قيمة لفكرهما ولألحانهما إن لم تلامس الوطن رمز الجمال والعزّ والبطولة”.
ويضيف شاهين: “أصبح الوطن هو العالم المثالي والمتخيّل الذي سعى الرحابنة للارتقاء به إلى الأعلى والأسمى والمطلَق، فالوطن هو القرية وساحتها، والنافذة التي تنتظر عليها الصبية حبيبها، والتلة التي يُصلّى عليها، وكرم العلالي وحكاياته بأفراحها ومشاكلها وصراعاتها التي مهما بلغت فتُحلّ بالتوافق وحلقات الدبكة والزغاريد”.
في إحدى مقابلاته الإعلامية يقول منصور الرحباني: “يصنعك الوطن وتصنعه.. الإنسان هو تراب الوطن، والوطن دون إنسان هو أرض لا تكون حقيقية إلا عندما تنعكس فيها، فأنت شمسه وهو قمرك”.. وما بين عاصي الرحباني الذي رحل في العام 1986 ومنصور الرحباني الذي رحل في العام 2009 يتساءل شاهين “هل تغيّر مفهوم الوطن عند منصور”: “أبداً، فهو أطلق هتافاً ردّده العالم”: “وطني بيعرفني وأنا بعرف وطني”.
كان الأخوان رحباني يسافران في الخيال إلى أمكنة تبدو عصيّة على الواقع ليخلقا رمزاً جديداً للوطن المقدس والمحبوب، فما نضب حلمهما لتصبح الحياة كابوساً، لأن الواقع العظيم لا يتفجر إلا من الحلم العظيم: “كان الوطن الرحباني أجمل من الخيال وأروع من الحلم، فوطنهما وطن قويّ منيع، فيه الكثير من المعاني السامية، يمتزج فيه الغيم البنفسجي بطفل يرسم عيون حبيبته على المطر”.
ويؤكد شاهين أن الرحابنة مزجوا الوطن بالإنسان الذي يُعتَبر أساس الوطن والمواطنة، وهذا الإنسان لا يعبّر عن مواطنيته إلا من خلال جهده وتعبه وإنتاجه ويديه المعفّرتين بتراب الوطن: “في مغناة سهرة حب يختتمها وديع الصافي سائلاً فيروز: أنتي من وين؟ فتجيب: أنا من بلد الشبابيك المجروحة بالحب المفتوحة عالصدفة، وتسأله: وأنت من وين؟ فيجيب: أنا من بلد الحكايات المحكية عالمجد المبنية غلى الإلفة”، إذاً فالوطن هو المحبة، وهو بالنسبة للرحابنة ليس الأرض فقط بل الرموز النبيلة والمعاني السامية، وهو الإنسان فرداً كان أم جماعة، ولا معنى له دون المحبة النبيلة، ففي مسرحية “جسر القمر” لا بدّ من الصلح ليحيا الوطن ويعيش بسلام، وهو الذي لا يمكن بناؤه إلا بالتشبّت بالأرض والتعلق بها.
ويؤكدون في مسرحية “البعلبكية” على ذلك: “هون نحنا هون لوين بدنا نروح يا قلب يا مشيد بحجارة بعلبك هون رح نبقى نتعب ونشقى نزرع الشجرة وحدّا الغنية”، ولإتمام عملية إعادة البناء لا بدّ من القضاء على الفساد وتعريته لإظهار الحقيقة، وهذا ما تفعله الصبية الفقيرة هالة في مسرحية “هالة والملك” التي تكشف فساد المملكة، أما السلام والمساواة فهما الغاية والمقصد، وكذلك لا معنى للوطن دون العدالة، فـ قرنقل في مسرحية “صح النوم” مستعدة أن ترتكب جناية السرقة في محاولة منها لأن تحقق العدالة، فالكلّ يبحث عن العدالة، ولا طعم أو معنى للوطن دون عدالة لا تتحقق بالنسبة للرحابنة إلا بمقاومة الظلم، وهذه المقاومة تأخذ البعد الجماعي في مسرحية “ناطورة المفاتيح”، إذ يقرّر أصحاب البيوت المغادرة الجماعية بأسلوب مقاومة واعٍ ورصين، فتخاطب زاد الخير الملك: “صار بدّك البيوت.. تركو لك ياهن وراحو” فيجيب: “وشو نفع البيوت بلا ناس؟” فتردّ قائلة: “هلأ عرفت قيمة الناس؟”.
ومن واقع المواجهة الجريئة والنبيلة والتضحية في سبيل الوطن يقرأ الرحابنة الوطن قراءة جديدة في مسرحية “جبال الصوان”، يقول غسان شاهين: “كان الحلّ في مسرحية “ناطورة المفاتيح” هجرة شعب بأكمله هروباً من الظلم، لتأتي فكرة المواجهة على يد غربة في مسرحية “جبال الصوان” حرصاً على الوطن، وهنا يتمثل الوطن بشعبه وإنسانه وأبطاله وشهدائه بعد استشهاد والد غربة ثم استشهاد غربة نفسها، فالشهادة هي علامة النصر، ولا نصر دون شهادة، ولأن الوطن هو البناء والسلام والفرح الدائم، والتمتّع بالخيرات واستشفاف المستقبل الجميل، يصبح فخر الدين في مسرحية “أيام فخر الدين” رمز الوطن: “يا قمر مشغرة ويا بدر وادي التيم” فهو من نذر نفسه وسيفه من أجل الوطن، ويوصي عطر الليل أن تنذر صوتها من أجل الوطن، فما قيمة الوطن دون تضحية؟ والتضحية ليست كلاماً بالنسبة للرحابنة بل هي فعل وموقف ثابت في وجه الأعداء والظروف: “في مسرحية بترا تضحي الملكة بترا بنفسها من أجل حرية وطنها وتغنّي له: “بيقولو زغيّر بلدي بالغضب مسوّر بلدي، الكرامة غضب والمحبة غضب والغضب الأحلى بلدي”.
غنّت فيروز للوطن منذ عهدها بالغناء من كلمات وألحان الرحابنة وغيرهم، وتوقف شاهين عند بعض هذه الأغاني بعيداً عن المسرحيات التي شاركت فيروز فيها، وهو الذي سبق وأن خصّص محاضرة تحدث فيها عمّا غنته فيروز لسورية وفلسطين.