الاستئناس الحزبي.. ومشكلة التحيّزات المعرفية في التقييم
الدكتور سومر منير صالح
مع كلّ خطأ نرتكبه أو سلبيةٍ نقع بها فرصةٌ لصقل شخصيتنا وتجربتنا، شرط أن نملك مشروعاً ورؤية، هنا يصبح تقبّل الأخطاء والاعتراف بها، وتحليلها، وتجنّب المشاعر السلبية، درساً للحياة، وشرطاً للنجاح، مرتبطٌ بمدى موضوعيتنا في إطلاق الأحكام التقييمية.
ما إن انتهت مرحلة الاستئناس الحزبي في فروع المحافظات، وصدرت قوائم الوحدة الوطنية، حتى تكثفت النقاشات وظهرت الآراء المتباينة حول الاستئناس، وهو أمرٌ بحدّ ذاته مؤشرٌ على حجم المشاركة وعمقها شعبياً، فبعضهم من رأى فيها إيجابياتٍ مهمةٍ من ناحية التمثيل والآليات، وبعضٌ آخر رأى فيها سلبياتٍ أساءت للتجربة كالمال الانتخابي، والتكتلات الضيقة…، والحقيقة أنّ كلا الرأيين موضوعيين، فالإيجابيات كثيرةٌ ولعلّ أهمها ثلاثة: الأول إعادة الاعتبار للفرقة الحزبية كنواةٍ للتنظيم الحزبي، ومشاركٌ فعالٌ وحاسمٌ في الانتخابات الحزبية والحياة الحزبية عموماً، والقواعد الحزبية ممثلةٌ بالمتممين كانت المكون الأكبر بالمؤتمرات الانتخابية الأمر الذي وسّع مشاركة القواعد بشكلٍ كبيرٍ ومؤثر، والأمر الثاني وهو ذو الدلالة الفارقة أنّ حجم الترشح الكبير والذي باعتقادنا لولا الإيمان بالتجربة وصوابيتها وأنها تتيح فرصاً للجميع لما رأينا حجم الترشح الذي بدا لافتاً مع الدور التشريعي الرابع والأمر الثالث أنّ المخرجات أفرزت شخصياتٍ حظيت باحترامٍ واسعٍ على مستوى فروع المحافظات دون مالٍ انتخابيّ أو تكتل، وهو مؤشرٌ لا ينبغي تجاهله والإشارة فقط لبعض مواطن الخلل والسلبيات، فالأمر الطبيعيّ ألّا تعجب النتائج جميع الناس، فهيّ بالنهاية منافسة وتنافس.
وفي جانب السلبيات فكانت حاضرةً وواضحةً كما ذكرنا، ولكنّها ليست وليدة تجربة الاستئناس، وبالتالي لا يجوز تحميل التجربة عواقبها، بل هيّ وليدة خللٍ مجتمعيٍّ ليس طارئاً، ولكن الاستئناس كممارسة أظهر مدى الخلل، فتحسب للتجربة لا عليها، كما تحسب على الجهاز الحزبي، فجميع ما ذُكر كان داخل البيت البعثيّ لا خارجه، ومن دفع مالاً انتخابياً قد أساء، ولكن من قبل به أساء أكثر منه لأنّه مؤتمنٌ على تمثيلٍ حزبيٍّ كل حسب مؤتمره، وحتى لا نبرر الواقع فإنّ المطلوب مزيداً من المعايير الضابطة للممارسة الديمقراطية، ورفع مستوى الوعي العقائدي حتى تكون معايير الكفاءة حاضرةً في الاختيار على حساب المعايير الضيقة التي تسيء للحزب، وهي مسألةٌ ليست سهلةً فبناء الوعي مسألةٌ تدرجية، طبعاً تم تدارك هذه السلبيات ضمن آلية (الديمقراطية المركزية) التي تضبط مفهوم الاستئناس لكن في حدود نتائج الاستئناس ذاته والتي يتحمل الجهاز الحزبي طبيعة مخرجاتها.
المفاجئ وغير المبرر أن تصل بعض الآراء للقول بفشل التجربة وضرورة العودة للتعيين أو التسمية بدل الاستئناس، فهذا رأيٌ مجانبٌ الصواب كلياً، عاطفيٌّ بطبيعته، ذاتيّ، انفعاليّ، فأولاً وقبل كلّ شيء ليس المطلوب من الديمقراطية أن تكون مخرجاتها مثالية، فنحن في صدد ظاهرةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ في آن، وثانياً فالتجربة رائدةٌ والآليات التي تنتجها موضوعيةٌ تحتاج تطويراً مستمراً، دون أن نغفل أنّ الرهان الأكبر لتجربة الاستئناس هو مدى رفع مستوى الوعي الانتخابي للقواعد الحزبية، التي تعرضت كسائر المجتمع السوري لحربٍ إدراكيةٍ شرسة، حاولت نسف مفاهيم الهوية الوطنية والمواطنة، وشجعت الهويات الضيقة ودون الوطنية، ولكن تجربة الاستئناس الممتدة منذ إقرارها في النظام الداخلي 2018، كأسلوبٍ تتبعه القيادة المركزية في اختيار ممثليها للمجالس التمثيلية وهيّ في تطورٍ مستمرٍ على مستوى الممارسة وعلى مستوى الآليات وراهناً على مستوى المعايير، وتطور التجربة دليلٌ كافٍ على صوابية المسار الهادف لمخرجاتٍ موضوعية، وكما هو معروف فالديمقراطية ليست وصفةً جاهزة، بل تجربةٌ وتقييمٌ واستمراريةٌ فكلّ مرحلةٍ تصحح سلبيات المرحلة التي سبقتها، والقاعدة الديمقراطية أنّها تصحح ذاتها، والجميع يتحمل المسؤولية وهيّ مسؤولية ممتدة، وبناء الوعي الحزبيّ البعثيّ هو مسألةٌ ذاتيةٌ وتنظيميةٌ في آن، فالخلل الذي حصل، نحن كبعثيين مسؤولون عن تصحيحه بشكلٍ جماعيّ، فالأخطاء والممارسات الفردية قابلةٌ للتصويب في المؤتمرات الحزبية القادمة، فلماذا انتخب مستقبلاً شخصاً أعتقد أنه ارتكب ممارسةً غير صحيحة أساءت للحزب؟!، هنا يكون التصويب والتصحيح ذاتياً، وليس في نسف التجربة التي هي في حدها الأدنى تكشف لنا مواطن الخلل لتدعونا لإصلاحه.
وهنا لابدّ من التنويه لمسألة وقع بها الرأي العام الحزبي، وهو الفخ الرقميّ في معالجة مخرجات الاستئناس، فكلٌّ منا سمع ما يريد أن يسمع سلباً أو إيجابياً على مواقع التواصل، وبات مقتنعاً بأن رأيه هو الرأي العام السائد، وبالتالي وقعنا بتحيزٍ معرفيٍّ يسمى الانحياز التأكيديّ والذي بمقتضاه نميل إلى البحث وتذكر المعلومات التي تؤكد تصوراتنا فقط، وبهذا نكون وقعنا أسرى الخوارزميات الرقمية التي كُتبت لتدعم تحيزاتنا المعرفية ضمن ما يعرف رقمياً بـ(تأثير غرفة الصدى)، إذ تعمل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي على تخصيص المحتوى وفقاً لتفضيلات المستخدم، وهو ما قد يحدّ من التعرض لوجهات نظرٍ مختلفة.
انحيازنا العقليّ لتحيزاتنا المعرفية غالباً ما يقود لأحكامٍ غير دقيقة، وهو ما يفسر أننا في كلّ مرحلةٍ ومع كلّ تقدمٍ في تجربةٍ نسمع أراءً تدعونا للإحباط والنكوص وعدم الاستمرار بالتجربة، وتظهر أراءٌ مجتمعيةٌ تشعر بالحنين للماضي وكونه الأفضل سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتبدأ المقارنات مع الماضي والتجارب السابقة، والحقيقة أنّ الجواب هو ذاته الوقوع أسير التحيزات المعرفية، ففي قياساتهم ومقارناتهم السياسة والاجتماعية والاقتصادية دائماً ما يشعر الناس بأنّ الماضي أفضل من الحاضر، وهو (وهمٌ اجتماعيٌّ) ينشأ من الجمع بين ظاهرتين نفسيتين معروفتين، وتحيزين إدراكيين هما: تحيز السلبية وتحيز الذاكرة، فالبشر يولون الاهتمام للمعلومات السلبية، وبالتالي يجمع الناس معلومات سلبية أكثر من المعلومات الإيجابية، أما التحيز الثاني هو تحيز الذاكرة، فذكرياتنا السلبية تتلاشى أسرع من ذكرياتنا الإيجابية، والتحيز الأول يجعل الحاضر يبدو وكأنّه أرضٌ قاحلةٌ، أمّا التحيز الثاني فيجعل الماضي يبدو وكأنه عالمٌ رائع.
البعث مسيرةٌ وتاريخٌ مستمر، وليس تجربةً تقاس وتقارن مع ذاتها في فترةٍ زمنيةٍ مختلفة، واليوم حزب البعث يمر بمرحلةٍ حساسةً ومهمةً ومفصليةً في تاريخه، فهو يعيد إنتاج ذاته موضوعياً، ويجدد أدواته ويطور رؤيته للحزب وممارسة السلطة، وهو بحاجةٍ لفسحةٍ زمنيةٍ لتبلور المخرجات، فالحزب أثبت لكوادره وللمجتمع حيويةً كبيرةً ومرونةً وموضوعيةً في التعاطي السياسي المجتمعي في سورية، تمكنّه من الاستمرار ويسجل للحزب راهناً السير المتوازن بين الأيديولوجيا كفكرٍ، والظروف الموضوعية كعملٍ وبيئةٍ.