دراساتصحيفة البعث

ترشيح فانس سيغيّر السياسات الأمريكية

ريا خوري

لم يتوقّف التراجع والتقوقع الأمريكي الذي اتخذ مساراً لا رجعة عنه، في ظل  القضايا والمشكلات العميقة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، تلك المشكلات التي لا حدّ لها، والتي أحدثت خلافات عميقة  تأثرت بها السياسة الأمريكية في الخارج، مع الخصوم والحلفاء والعديد من دول العالم. وبعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس السابق، دونالد ترامب، من الحزب الجمهوري لم تصمد كل الدعوات إلى التهدئة والوحدة بين الشعب الأمريكي من الجمهوريين والديمقراطيين وما بينهما طويلاً، وانهارت تلك التهدئة بسرعة مع انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، واختيار الرئيس ترامب السيناتور اليميني جيمس ديفيد فانس، نائباً له، ليصحبه في العودة إلى البيت الأبيض.

الجدير بالذكر أنّ السياسي والمحامي الأمريكي فانس من الحزب الجمهوري هو حالياُ عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية أوهايو منذ سنة 2023، وخدم في قوات مشاة البحرية وحضر جامعة ولاية أوهايو، وتخرج في عام 2009، ويبدو نسخة أكثر تشدّداً من ترامب نفسه، ومتقلباً أكثر منه، وسيكون شخصيةً مثيرةً، وإشكالية في المجال السياسي والدبلوماسي، وهو رجل حروب كلامية وشعارات وبروباغندا. ومثلما صعق اختياره المنافسين الديمقراطيين، ووصفوه بالمتطرّف، والمحابي لكبار الأثرياء في الولايات المتحدة، لا يتفاعل جانب من الجمهوريين معه بالإيجاب، في كل ما يقول ويفعل لأنه رجل براغماتي وسياسي متقلّب. أما المؤشرات على صعيد العلاقات الخارجية للإدارة الأمريكية القادمة فتنذر بمتاعب ومشكلات غير مسبوقة.

فمنذ الساعات الأولى لاختياره نائباً للرئيس ترامب انكشفت التصريحات الصادمة التي كان يطلقها، وتبيّن أن فانس شنّ هجوماً لاذعاً على بريطانيا، أقرب الحلفاء للولايات المتحدة، وزعم أنها (دولة إسلامية مسلّحة نووياً)، في تعليقٍ صارخ له على الفوز الساحق الذي حققه حزب العمال البريطاني هذا الشهر. وهذا الموقف محرج حقاً للولايات المتحدة وسياستها الخارجية، ومثير للريبة والشك معاً.

وإذا كان هذا الحال مع المملكة المتحدة، فإنّ الموقف من الحلفاء الآخرين في القارة  الأوروبية، ودول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، سيكون سيئاً جداً، وملغوماً بالمفاجآت بل بالصدمات القاسية، بما يمهّد لنسف كل ما حاول الرئيس الحالي جو بايدن ترميمه وبناءه، بعد العهدة الأولى لترامب وما تركه من إرث وقضايا وخلافات جوهرية في الداخل والخارج. أما العهدة الثانية المفترضة، فإنها ستدقّ إسفيناً في العلاقات القائمة بين ضفتي المحيط الأطلسي، وقد تنقلها إلى أوضاع شديدة التقلب، ودراماتيكية متسارعة، لكنها ستساعد على انفراجات أخرى في علاقات الولايات المتحدة الأمريكية المتوترة مع قوى أخرى، ولا سيما مع روسيا الاتحادية. وإذا كان ترامب قد تعهّد بإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا خلال 24 ساعة، وأن المساعدات العسكرية والمالية المقدمة لأوكرانيا لا تقدّم، أو تؤخّر، فإنّ نائبه فانس يعدّ هذه الحرب لا يمكن أن تنهزم فيها روسيا الاتحادية لأنها دولة قوية، وليس كما يحلم الأوروبيون.

الأحداث الجارية في الولايات المتحدة الأمريكية لا تبشر بمرحلة من المصالحة الداخلية بين الأحزاب والقوى والشعب الأمريكي، والانسجام مع العالم الخارجي الواسع الذي يبدو أنه يتغيّر بشكلٍ متسارع، وكل المؤشرات تؤكد أن هذه القوة العظمى ربما تدخل في منطقة رمادية لا يتضح معها المسار الذي يمكن أن تتجه إليه وهو مسار معقد وصعب ومصيري. ومن المبكر الحكم بالنجاح، أو الفشل، إذا سيطر ما بات يعرف بـ(اليمين الجديد)، والذي يعدّ فانس أحد وجوهه، على مقاليد الإدارة القادمة في البيت الأبيض، والمؤسسات الفيدرالية، وما يستتبع ذلك من تأثيرات كبيرة في الأوضاع العالمية التي أصبحت مختلفة جداً عما كان عليه الحال قبل أربع سنوات خلال الدورة الرئاسية الماضية، عندما كان الرئيس ترامب في البيت الأبيض. ومثلما تعرف الولايات المتحدة الأمريكية انقساما حاداً لا سابق له، وصل إلى حدّ العنف المباشر، والفوضى بمختلف أشكالها، ومحاولة التصفية الجسدية التي تعرّض لها ترامب مؤخراُ، أصبح العالم منقسماً، ومتعدّد الأقطاب، وتتخلله الحروب والأزمات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والجائحات مثل كوفيد ١٩ (كورونا)، ولم يعُد يحفل بالقوة الأمريكية التي فقدت الكثير من هيمنتها  وسطوتها، وسمعتها، بسبب أخطاء استراتيجية ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة السابقة في الربع الأول من هذا القرن.

ومن المتوقع أن إدارة ترامب القادمة، لن تكون أفضل حالاً من ذي قبل، بل ستكون على الأغلب عنواناً للكمون والتراجع والسبات، لإعادة بناء الذات الأمريكية المستنزفة والمترهّلة بعيداً عن مشكلات الخصوم والأعداء، وطلبات الحلفاء والأصدقاء.