عبثية البرامج السياسية.. بريطانيا نموذجاً
ريا خوري
لم تتوقف عبثية الانتخابات الغربية عن الترويج لبرامجها الانتخابية التي تنادي بالتطوير الاقتصادي والاجتماعي والإصلاح الإداري، وتعزيز الديمقراطية، والحرية والعدالة الاجتماعية. وبريطانيا دخلت تلك العبثية من خلال الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الفترة السابقة.
العبرة في هذا الأمر ليست في إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولا في كفاءة المرشحين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، بل في كيفية تحقيق الإصلاح المنشود، والوفاء بالوعود التي رفعوها في حملاتهم الانتخابية للخروج المأزق الذي وقعت فيه تلك الدول وهو العجز الاقتصادي والمالي والتجاري.
فقد وقعت بريطانيا في أزمة اقتصادية حادّة أدَّت إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وعانت من ضعف النمو طوال الأعوام السابقة وحتى في عامنا هذا 2024.
في الماضي شكّل الاستعمار رافعة لغالبية دول الغرب الأوروبي في تحقيق ثروات كبيرة من جراء السيطرة والنهب وفرض العبودية على الشعوب المستضعفة في العالم. أمّا اليوم فليس هناك سوى الصناعة والتجارة والاقتصاد والزراعة والإنتاج لرفد الخزينة بموارد جديدة، لأن دولة الرفاه والطمأنينة التي شهدتها غرب القارة الأوروبية في أواخر القرن العشرين قد تلاشت اليوم وسط حالة من الوهن والتراجع، ووسط ركام هائل من أخطاء الماضي، واستنزاف كبير للموارد والثروات الهائلة.
وليست بريطانيا أفضل حالاً من غيرها من دول الجوار، فهي تعاني عجزاً اقتصادياً كبيراً بلغ في شهر أيار العام الماضي 2023 م وفق مكتب الإحصاء الوطني نحو 2,23 تريليون جنيه إسترليني، وبما يعادل مئة وواحد في المئة من الناتج المحلي البريطاني.
لقد أدركت الشعوب داخل الاتحاد الأوروبي أن السياسات الرسمية الحالية المتبعة والمرسومة غير مجدية، بل إنّها تفاقم من حجم الأزمات الاقتصادية والتجارية والمالية التي تعانيها مختلف دول ذلك الاتحاد، ولذلك تقدمت أحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية التي جرت مؤخراً، ونجح اليمين المتطرف في تشكيل حكومة يمينية في هولندا.
لقد فقدت الأحزاب السياسية القدرة على تقديم برامج إصلاح اقتصادي ومال وتجاري، وما يدلِّل على ذلك هو أن حزب المحافظين الذي له تاريخ في قيادة الحياة السياسية في بريطانيا قد تحول إلى حزب ضعيف وهزيل حيث تناوب على رئاسة حكومته أربعة من زعمائه في فترة زمنية قصيرة هم: تيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تروس ومن ثم ريشي سوناك الذي شغل منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة من تشرين الأول 2022 إلى حزيران 2024، لكنه لم يأتِ من أجل تقديم رؤية اقتصادية جديدة، بل من أجل تدبير الأمور فيما بقي من عمر تلك الحكومة المتهالكة.
لقد كشفت الانتخابات البرلمانية البريطانية التي جرت في 4 تموز عن الواقع السياسي المتردي والضعيف في دولة بلغت قمة المجد السياسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل أن تتراجع وتنكمش على حالها اليوم وتعاني من الوهن .
وقد جاء اليسار ببرنامجه السياسي والاقتصادي والمالي والتجاري تحت شعار (وقت التغيير)، وليس المقصود هنا بذلك تغيير السياسات الداخلية والخارجية القائمة المتبعة والمجيء بأخرى جديدة بديلة عنها، بل يعني الشعار نهاية عصر حزب المحافظين الذي حكم بريطانيا لمدة أربع عشرة عاماً. لكن اليسار لا يحمل برنامجاً جديداً مختلفاً، بل سوف يسير على نفس النهج الذي سار عليه المحافظون تجاه الملفات الدولية التي لها تأثير كبير على حركة الاقتصاد الدولي والمحلّي.
الجدير بالذكر أنَ بريطانيا التي بقيت تقف على حافة الاتحاد الأوروبي، ولم تندمج بشكل فعلي فيه، هي اليوم تعيش العديد من الأزمات الحادة بمثل تلك الأزمات التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، بل هي تقبع تحت وطأة كساد اقتصادي يتفاقم يوماً بعد يوم ، وما يجري اليوم يشابه إلى حدٍ بعيد المرحلة التي مرت بها العديد من الدول الغربية ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما دخلت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنها بريطانيا في حالة كساد اقتصادي كان السبب في اشتعال الحرب الثانية، وكان سبب ذلك الكساد هو صعود اليابان على مختلف الأصعدة من جهة، وانبعاث ألمانيا من جديد خلال الفترة النازية التي تزعمها الفوهرر أدولف هتلر، حيث تعقدت السياسة واستفحلت الأزمات الاقتصادية والمالية والتجارية، وقد أنهت الحرب ذلك الكساد وأدَّت إلى ظهور قوى دولية جديدة تجسدت على الساحة الدولية، هي الولايات المتحدة الأمريكية في الغرب والاتحاد السوفييتي السابق في الشرق.
العالم أجمع يتابع حالة الكساد الاقتصادي في العديد من دول العالم، وسوف تستمر حالة الكساد حتى تنتهي بأحد أمرين: اندلاع حرب عالمية ثالثة كبرى، أو جنوح الدول المختلفة نحو تسوية تنهي حالة الخلاف المتأصّل في العالم، وتعيد ترتيب العالم وفق سياسات متفق عليها ترضي جميع الأطراف المتصارعة، ويبدو أن خيار الحرب هو المطروح حتى الآن، لكن الحرب ليست قدراً على الإطلاق، وأيّة دولة لا يمكن أن تحتمل تكاليفها الباهظة بسبب خطورة الأسلحة الموجودة، وتكاليفها الاقتصادية والمالية والإنسانية الباهظة.