الأجيال والتخوّف
منذ ربع قرن تقريباً لم يره، أحياناً كانا يتواصلان عبر الهاتف، فرح بزيارته، فهو نادراً ما يرى أحداً، لأسباب لا يريد الدخول فيها الآن على الأقلّ، قال: “تغيّرتَ كثيراً يا صديقي”.
أجابه: “يبدو أنّي تغيّرتُ وحدي”!! فهمها فابتسم بودّ، قال: “وقتي قصير لأنّني سأعود مع مَن جاء بي، وأريد أن أبوح ببعض ما في نفسي”، أجابه: “تفضّل”، تابع: “تعلم أنّنا من جيل لم يبق منه إلّا القليل، وكانت لنا أحلام بحجم هذا الوطن المنكوب، أجيالنا تربّتْ على الثقافة، وكانت قيمة حقيقيّة، وعلى النشاط السياسي والاجتماعي، وعلى الأمانة، والصدق، ولنا محاسننا ومساوئنا، ولم أستطع التخلّص من هذا الانتماء، وأنظر الآن إلى الأجيال النّاشئة فأزداد غمّاً، فهل أنا على خطأ؟”.
أجابه: “كلانا في هذا الهوى سواء، ولسنا وحْدنا الذين حلموا، وعملوا، ثمّ فاجأتهم تحوّلات غير محسوبة، فأحد المؤرِّخين المشهورين، وقد عاصر فترة النّهوض القومي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، قال ما معناه: لن يحلّ عام 1975 حتى يكون العرب قد حقّقوا وحدتهم الكبرى، بيد أنّ حساب حقْلنا لم يُطابق حساب البيدر، لأسباب ليست داخليّة بحتة، ولا خارجيّة بحتة، بل تضافر الخُبث والتخوّف الخارجي من نجاح المشروع القومي، وثَمَ مجريات، أوصلتْ المنطقة بكاملها إلى ما نحن عليه، وهي مرحلة تحتاج لجرأة في التقييم، لتكون عِبرة للأجيال القادمة، أقول هذا على الرغم من أنّ تسارع الأحداث ما يكاد يترك فرصة حتى لاسترداد الأنفاس”.
قاطعه: “أنا لم أقصد العودة إلى تلك المرحلة فقد انقضتْ، الذي يشغلني الآن واقع هذه الأجيال التي صار بين جيلنا وبينها هوّة تحتاج لعمل خارق لردمها، فقد صار بعض أبنائنا غرباء عنّا ونحن نعيش تحت سقف واحد، وأنت تعرف حجم الألغام التي زرعتْها حرب الدواعش في سوريّة، وفي غيرها، فنحن أمام خارطة جديدة، تحتاج لكثير من الذكاء والإخلاص للاستهداء بها”.
أجابه: “الأمر على درجة كبيرة من الحساسية والخطورة، فلسنا وحدنا مَن نربّي أبناءنا ونوجّههم، ثمّة شريك خطر هو هذا الجوال، ويضاف إليه صفحات التواصل الاجتماعي على الحاسوب، وهذا ربّما يشمل العالم كلّه، العالم الذي بشّرونا بأنه صار قرية واحدة، بيد أنّ الدول التي تنبّهتْ لذلك سعت للتخفيف من هذه الآثار، بقدر المستطاع، وبعضها قادر على ذلك، أمّا نحن المُبعثرون، والذين يواجهون باستمرار إطفاء الحرائق التي ما يكاد يخمد بعضها في مساحة ما حتى تندلع في مكان أوسع، فإنّ الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً،.. العالم كلّه تقريباً يُساق، بشكل ما لتحويل الانسان إلى إنسان آكل، جنسي، لا غير، بعيداً عن القيم الإنسانية التي جاءتْ بها الشرائع السماويّة، ونادى بها الفلاسفة والمفكّرون المستنيرون، وما أظنّ أنّ هذا يحدث بمحض المصادفة، أو أنه جاء من دون تخطيط، بل ثمّة أدمغة خبيثة مخيفة وراء أن يبدأ كل شيء بتفكيك العائلة، وبتدمير الأخلاق الوضيئة، وتغييب روح الفنّ الرفيع، والأدب العميق، والرسوم المعبّرة، أين أمثال غوته، والخيّام، وبدوي الجبل، وشارلي شابلن، وطه حسين، وشوبان، وطاغور، وعمالقة الإبداع في العالم؟!!.. إنّ هذا يضع شرفاء العالم كلهم أمام مسؤوليات تاريخيّة مصيريّة، لإنقاذ سكان هذا الكوكب ممّا يُراد له من قوى الشرّ الأبرز، أعني الحلف البريطاني ـ الأمريكي المتصهين، وأرى أنّ هذا لن يحدث قبل تحجيم واشنطن، بما تمثّله، وبما هو مُضمَر فيها، وبعضه في غاية الإفصاح، وما يجري فوق أرضنا هو المفصل الذي ستتقرر من خلاله أهمّ النتائج، وهذا ما يجعل المسألة على درجة خطيرة من التعقيد والوضوح.
عبد الكريم النّاعم
aaalnaem@gmail.com