دراساتصحيفة البعث

الصين ومنطق العولمة الناجح

عناية ناصر

يوضح الإصلاح والانفتاح في الصين بعد عام 1978 أن التوجه نحو الاقتصاد الدولي، ودعم العولمة يشكلان محور سياسات الصين، وهذا يتماشى مع المصالح الوطنية للصين ومصالح الاقتصاد الدولي.

لقد حققت العولمة بعد الحرب العالمية الثانية، نجاحاً هائلاً، حيث زاد نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من عام 1978 إلى عام 2022، بنسبة 313 في المائة مع ارتفاع متساوٍ تقريباً في متوسط ​​مستويات المعيشة. وارتفع نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 3,033  في المائة . كما تشهد اقتصادات الجنوب العالمية الكبيرة الأخرى، الهند وإندونيسيا وفيتنام وتركيا ومنطقة الآسيان بأكملها وغيرها، نمواً سريعاً.

كما شهدت العولمة أكبر انخفاض في معدلات الفقر في التاريخ، فمنذ أن أطلقت الصين الإصلاح والانفتاح، تم انتشال 1.2 مليار شخص من  الفقر الذي حدده البنك الدولي على مستوى العالم بقيادة أكثر من 800 مليون شخص في الصين، ثم 240 مليون شخص في الهند، و30 مليون شخص في فيتنام، ونحو 200 مليون شخص في بلدان أخرى.

إن هذه النتائج تثبت أن ادعاءات بعض وسائل الإعلام الغربية بأن الصين تنغلق على نفسها، وتسعى إلى الانفصال عن الولايات المتحدة وأوروبا، سخيفة.  عندما حقق الانفتاح للصين مثل هذا النجاح، فإن الانغلاق على الذات يعادل إخراج الصين لبندقية وإطلاق النار على قدمها.  وتماشياً مع الغالبية العظمى من دول الجنوب العالمي، تريد الصين متابعة العولمة بسبب نجاحها.

وعلى النقيض من ذلك، تنغلق الولايات المتحدة وأوروبا على نفسيهما فتفرضان تعريفات جمركية متزايدة، وعقوبات دولية على التكنولوجيا، وما إلى ذلك، حيث اقترح دونالد ترامب، خلال حملته الرئاسية هذا العام، فرض تعريفات جمركية عالمية بنسبة 10٪ على جميع الواردات الأمريكية.

إن العالم يتطور، بالتالي، وفق نمط تنمو فيه الصين وغيرها من اقتصادات الجنوب العالمي بسرعة وتسعى إلى العولمة، في حين تظل الولايات المتحدة وأوروبا راكدتين نسبياً، حيث تنمو الولايات المتحدة بمعدل يزيد قليلاً على 2% سنوياً وأوروبا بمعدل 1% ، وتنغلقان على نفسيهما.

والسبب  وراء نجاح الانفتاح، أو العولمة، في الصين والجنوب العالمي، و فشل الولايات المتحدة وأوروبا في الاستفادة بالمقارنة، هو أن الصين تصرفت بما يتماشى مع عملية العولمة، في حين لم تفعل الولايات المتحدة وأوروبا ذلك.  إن العولمة تبرهن على القضايا الأساسية في الاقتصاد التي كانت في صميمها منذ تأسيسها، وقد تجلى ذلك في  كتاب “ثروة الأمم” لآدم سميث، حيث أثبت سميث أن الدولة التي تركز فقط على التنمية المحلية، والمنفصلة نسبياً عن التجارة الدولية، لن تنمو بأسرع ما يمكن لأنها سوف تطور حتماً قطاعات اقتصادية ضخمة غير فعّالة.

لا يمكن لأي دولة أن تكون الأكثر كفاءة في إنتاج كل شيء، وإذا حاولت أن تكون حمائية أو مكتفية ذاتياً، فإنها تهدر الموارد في إنتاج أشياء يمكن شراؤها بثمن أرخص من الخارج.  وبالتالي، لكي تكون أكثر نجاحاً، يتعين على الاقتصاد أن يتخصص في إنتاج الأشياء التي تكون أكثر كفاءة فيها، وأن تشارك في تقسيم العمل الدولي من خلال تبادل هذه الأشياء بمنتجات تكون الدول الأخرى أكثر كفاءة في إنتاجها، ولكن لا يوجد شيء سحري في الحدود الوطنية.

إن التجارة الدولية تشكل جانباً واحداً من مزايا التخصص وتقسيم العمل، ولكي تنجح أي دولة في التجارة الدولية، يتعين عليها أن تسعى إلى تحقيق هذه المزايا الأخرى. وعلى وجه التحديد، يتعين عليها أن تجعل تقسيم العمل المحلي المتطور ممكناً من خلال الاستثمار في النقل والاتصالات والبنية الأساسية الأخرى، ويتعين عليها أن تخصص موارد متزايدة للبحث والتطوير المتخصص، وأن تزيد من تعليم وتدريب قوتها العاملة، ويتعين عليها أن تبحث عن أرخص موردي الطاقة، وهي تحتاج إلى بيئة سلمية حتى تتمكن التجارة من التطور، وهذا يعني متابعة سياسة خارجية تهدف إلى التنمية السلمية،وبالتالي يتعين على السياسات المحلية والدولية أن تكون متكاملة.

وهذا ما فعلته الصين على وجه الخصوص، وأيضاً اقتصادات الجنوب العالمية الناجحة الأخرى . وتوضح الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا هذا الأمر بشكل بياني، فقد حولت هذه البلدان شرق آسيا إلى منطقة للتجارة والاستثمار الدوليين المكثفين والسلام في وقت واحد، وبالتالي أصبحت المنطقة الاقتصادية الأسرع نمواً في العالم، وقد اتبعت سياسات محلية تتماشى مع نبض العولمة، بينما اتخذت الولايات المتحدة وأوروبا الاتجاه المعاكس.

لقد أصبحت البنية الأساسية في الولايات المتحدة متهالكة، في حين أنفقت نسبة ضخمة من اقتصادها على الجيش، ونظام صحي غير فعال بشكل غريب يكلف نسبة أعلى من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر متوسط ​​عمر متوقع أقل من أي اقتصاد متقدم آخر.  وبدلاً من السعي إلى التنمية السلمية، سمحت أوروبا بتوسع استفزازي شرقاً لحلف الناتو مما تسبب في اندلاع أكبر حرب في القارة في أوكرانيا منذ عام 1945 وقطع أوروبا الغربية عن أرخص مصدر للطاقة – روسيا.

إن الصين والجنوب العالمي ناجحان في العولمة، لأنهما يتبعان سياسات محلية وأجنبية تتماشى معها، بينما اتبعت الولايات المتحدة وأوروبا سياسات ضد منطق العولمة، وبالتالي عانتا من الفشل، ويبقى الأمل في أن تغير الولايات المتحدة وأوروبا سياساتهما، ولكن حتى يحدث ذلك، فإن الصين هي التي تلتزم بالعولمة والنجاح.