دراساتصحيفة البعث

العامل الإيديولوجي وأزمة النظام الأمريكي

ريا خوري

بدأت سهام دونالد ترامب مصوّبة باتجاه كامالا هاريس، ليفتح بذلك جبهة جديدة بعد انسحاب جو بايدن من السباق الانتخابي.

كان ترامب قد تجاوز التقاليد الانتخابية عندما وصف بايدن بصفات غير لائقة سياسياً، ولكن الآن بعد أن أعلن  انسحابه من معركة الرئاسة، فإن كل شيء تغير بشكلٍ واضح، وصار الحديث يتركز على من خلفه، أي هاريس التي استسهل هزيمتها في الانتخابات إذا ما رشحها الحزب الديمقراطي.

من الواضح أن ظاهرة ترامب لا تبدو أقل سوءاً من اختيار الديمقراطيين لنائبة الرئيس كامالا هاريس، وكلا النموذجين، هاريس وترامب لا يشكل امتداداً طبيعياً للنماذج القيادية الأمريكية التي تمثّل الحزب الجمهوري، أوالحزب الديمقراطي. وإزاء هذا الوضع، هناك أسئلة مهمة وإستراتيجية تم طرحها من قبل العديد من الأصوات داخل الولايات المتحدة حول مستقبل الإمبراطورية الأمريكية، ليس تجاه سياسات قادتها في الملفّات الخارجية الساخنة فقط، بل أيضاً تجاه حالة الاستقطاب الداخلي الذي يشير  بوضوح إلى حالة انقسام كبيرة، وتفكّك في العديد من المفاصل الداخلية، خاصة بعد تلك الموجة التي تم وصفها بـــ  (الموجة الترامبية)، التي دفعت نحو خطاب قومي جاد يضع نصب أعينه فكرة (الولايات المتحدة الأمريكية أولاً)، ويجعل من الشخص/ القائد، عنواناً للبرنامج السياسي للدولة، وهو أمرٌ كان قد عرفه الكثير من الأحزاب القومية  اليمينية المتطرفة في القارة الأوروبية، كما في ألمانيا الهتلرية (النازية)، أو في إيطاليا بينيتو موسوليني (الفاشية)، وأدّت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.

هذا التراجع الكبير في أداء الحزبين الديمقراطي والجمهوري لا يبدو ظاهرة خاصّة تشهدها الإمبراطورية الأمريكية التي بدأت تتراجع وتنهار، إذ إنها تبدو اليوم ظاهرة يمكن تعميمها بشكل واسع نسبياً في المنظومة الغربية ودولها، فقد شهدت السنوات الأخيرة وجود أزمة قيادة في العديد من بلدان أوروبا الرئيسية، وفي مقدمتها ألمانيا وتتبعها فرنسا وإيطاليا، وهي البلدان التي تشكّل القوة الناهضة والعمود الفقري للاتحاد الأوروبي، وتعتبر ذات إسهام تاريخي كبير وواضح في بلورة الأساس المفهومي لــ (الغرب) بوصفه منظومة اقتصادية سياسية عسكرية وثقافية، وليس الصعود الحالي لقوى اليمين الشعبوي المتطرِّف في هذه الدول الثلاث، مجرد ظاهرة آنية، بل هو مؤشر صريح وواضح، لا يمكن تجاهله أبداً، في سياق وجود قضايا ومشكلات وتحدّيات عدّة وقوية، تواجهها تلك المنظومة.

في هذا الإطار نجد أن هناك ثلاثة مقوّمات رئيسية تجمع الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الرئيسية في المنظومة الغربية وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تتمثّل في النظام الاقتصادي الرأسمالي، والديمقراطية، والليبرالية، وقد استفادت مجمل المنظومة الغربية من مواجهتها مع منظومة نقيضة لها، كان يمثّلها الاتحاد السوفييتي السابق.

من هنا نجد أنّ (المنظومة الغربية) هي الأساس الأيديولوجي الذي أسهم في صعود الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذه المنظومة تفتقد اليوم في صراعها مع روسيا، أو حتى الصين، السند الأيديولوجي القوي الذي كان يمنحها، من وجهة نظرها، ومن وجهة نظر مناصريها ومؤيديها في العديد من دول العالم، قوة أخلاقية، ما يجعل هذه الصراعات وتلك النزاعات مكشوفة للجميع، بوصفها صراعات ونزاعات على المكانة، والنفوذ، والهيمنة على السوق الدولية والتجارة العالمية.

ما تعانيه الولايات المتحدة، التي تطرح نفسها على أنها الإمبراطورية الأمريكية، ومعها مجمل المنظومة الغربية، ليس تراجع المكانة العسكرية والأمنية الإستراتيجية والاقتصادية في العالم، بل حدوث تحوّلات نوعية في بنية وشكل العامل الإيديولوجي الذي ساهم، وما زال، في تحديد آليات التنافس السياسي الداخلية (ترامب وهاريس)، أو في بناء تصورات  وتوقعات حول الدور والمكانة الدوليين في الوقت الراهن وفي القادم من الأيام، إذ يعاني النموذج الديمقراطي الليبرالي من تحوّله إلى الشكلانية لا أكثر، على حساب المضامين الرئيسية داخل مجتمعاته التي باتت متعدّدة التوجهات والانتماءات، كما أنّه أصبح محطّ شك وعدم يقين عالمي، بعد تخليه المكشوف والفاضح عن مبادئ الحرية والديمقراطية، والمساواة والعدل في العلاقات بين دول العالم.