دراساتصحيفة البعث

ديناميكيات تفكك أوروبا

عناية ناصر 

بينما يدرك الغرب الجماعي بقدر كبير من الدهشة أنه لم يعد يقرر أي شيء على الساحة العالمية، فإن أوروبا من جانبها تتفكك بوتيرة متسارعة. أي أن ديناميكية القوة العالمية تشهد تحولاً عميقاً وبسرعة كبيرة، حيث يبدو أن النفوذ المهيمن للدول الغربية ينهار.

شكلت أوروبا والولايات المتحدة تاريخياً الشؤون العالمية من خلال قوتهما الاستعمارية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وبسيطرة أقوى بعد الحرب العالمية الثانية من خلال مؤسسات مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي التي تحتاج إلى الإصلاح. ومع ذلك، فإن ظهور قوى اقتصادية جديدة مثل الصين والهند، والذي يتضح من المبادرات الكبرى مثل الحزام والطريق، يمثل الانتقال من نظام أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث تعمل جهات فاعلة مثل روسيا، ورابطة دول جنوب شرق آسيا واتحاد دول أمريكا الجنوبية، والاتحاد الأفريقي على تعزيز نفوذها.

ترافقت التحولات الجيوسياسية مع تحول اقتصادي كبير منها انتقال محور التجارة العالمية نحو آسيا، والابتكار التكنولوجي الذي يمتد إلى ما هو أبعد من الغرب، والتأثير المتزايد لصناديق الثروة السيادية الصينية، والاستثمارات في الأسواق المالية. وفي الوقت نفسه، يواجه التفوق الثقافي الغربي تحدياً يتمثل في صعود السينما الهندية، وتوسع المنصات الاجتماعية غير الغربية، فضلاً عن زيادة التبادلات التعليمية الدولية. وتؤدي العقوبات المفروضة على روسيا إلى تفاقم الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي وفي هذا السياق المحدد من الديناميكيات العالمية، والذي يتسم بالتغيرات السريعة وغير المتوقعة، تواجه أوروبا تحديات كبيرة. فقد أدت التحولات الاقتصادية، مثل العولمة والأزمات المالية، إلى تعزيز القدرة التنافسية الدولية في حين أدت إلى تفاقم الفوارق الاقتصادية داخل الدول وفيما بينها. وقد أدت سياسات التقشف، استجابة لهذه الأزمات، إلى تخفيضات في الميزانية أثرت على الخدمات الاجتماعية وتسببت في استياء متزايد. كما أن الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية يجعل الاقتصادات الأوروبية عرضة للاضطرابات الخارجية.

من الناحية السياسية، تعرض الاتحاد الأوروبي للتحديات الداخلية، ولا سيما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أضعف الاتحاد اقتصادياً وسياسياً، كما تعرض لتحديات الخارجية، مع تزايد التوترات مع قوى مثل روسيا والصين. والعقوبات التي فُرضت في أعقاب العمليات العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والقيود التجارية العالمية المفروضة على روسيا والصين تشكل مثالاً جيداً على ذلك.

إن ردود الفعل على هذه التوترات، مثل العقوبات ضد روسيا، تخلف تداعيات مباشرة على الاقتصادات الأوروبية، وتؤدي إلى تغذية الخلافات الداخلية. كما وتؤدي العوامل الاجتماعية، بما في ذلك الهجرة الجماعية والتوترات الناجمة عنها، إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية وتعزيز شعبية الحركات الشعبوية، مما يعقد تنفيذ السياسات الأوروبية المنسقة.

إن رد فعل القادة السياسيين في أوروبا بعد زيارتي رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في 5 و 8 تموز 2024 إلى روسيا والصين على التوالي، بهدف نزع فتيل الحرب الواضحة بالوكالة في مسرح أوكرانيا، هو أفضل تعبير على نزعتهم القتالية وعن  مواقفهم ضد هاتين الدولتين اللتين تعملان ضمن تحالف البريكس.

كما أن الانتقادات الغربية لزيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى روسيا في الفترة من 8 إلى 9 تموز 2024 هي أيضاً جزء من عدد من الحروب النفسية، والكذب والدعائية التي تشنها الأقلية الغربية ضد بقية العالم متعدد الأقطاب.

وفي مواجهة هذه التحديات المترابطة، تجد أوروبا صعوبة كبيرة في تفضيل إستراتيجية منسقة وموحدة للحفاظ على سلامتها وتعزيز وحدتها، فأزمة الاستخبارات، إلى جانب أزمة الشخصيات السياسية، تضرب أوروبا، وتجعل منها وحشاً محاصراً، وهذا أيضاً هو السبب الأساسي لتفككها.

تجدر الإشارة إلى أنه  ليست كل الدول الأوروبية تتبع بشكل أعمى سياسة الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو،  وهو ما يثير بالتالي مسألة المتسللين داخل الفضاء الأوروبي، وبالتالي كسر منطق العمل الجماعي الذي طرحة السياسي والاقتصادي مانكور أولسون.

إن سياسة احتواء الصين وروسيا، والتي تشكل حلماً زائفاً للغرب العالمي، هي مغامرة غامضة محكوم عليها بالفشل بالفعل. وقد أصبح تفكك أوروبا أكثر وضوحاً، لذلك يمكن  القول إن الدول الغربية لم تعد تحتكر الحوكمة العالمية، وهي النتيجة التي تعكس صعود الاقتصادات الناشئة، وإعادة الهيكلة الجيوسياسية، والاضطرابات الاقتصادية، وتنوع التأثيرات الثقافية. وهو ما يعني أن تفكك أوروبا أصبح أكثر وضوحاً تحت تأثير انهيار الهيمنة الأمريكية الغربية.

إن العصر الحالي هو عصر التعددية القطبية، حيث لا يمكن للفكر أحادي القطب أن يسود في إدارة شؤون العالم، ويتعين على هؤلاء الذين يشعرون بالحنين إلى الأحادية القطبية الجامحة أن يدمجوا هذا الاتجاه في العلاقات الدولية في برامج حساباتهم الجيوسياسية والجيواستراتيجية.