بداية استدارة أوروبية
بشار محي الدين المحمد
سمات جديدة تصبغ السياسة الخارجية الأوروبية رويداً رويداً قد تؤثر إيجاباً على كل القضايا التي تؤرق العالم وأوروبا معاً، وليس آخر تلك الحراكات تعيين سفير لروما في دمشق بعد قطيعة طويلة خلال الحرب الإرهابية على الدولة السورية، وهو اتجاه ستسير على هديه مبدئياً خمس دول أوروبية أخرى، وبالتأكيد سيتبعها المزيد من الباحثين عن مصالح بلادهم، بعد أن أدركوا أنه من المفترض أن تبنى على السلم العالمي بالتوازي مع السلم الوطني والأوروبي..
إن اليمين الأوروبي لم يعد يحتمل مزيداً من انهيار بلاده بفعل موجات وقوارب المهاجرين الذين دُمّرت أوطانهم بفعل سياسات اليسار الأوروبي الذي لطالما صرّح بتمتعه بـ”الإنسانية” و”الانفتاح”، وغيرها من القيم التي للأسف أُفرغت من محتواها بالكامل بسبب ربط تطبيقها بالقرار السياسي الأمريكي والصهيوني والبريطاني والنيوليبرالي المتوحش، بل تلك القيم لم تستخدم سوى كـ”علب جاهزة” لشنّ العدوان، وفرض العقوبات الظالمة، وحصار الدول الوطنية التي لا تسير ضمن نسق ذلك القرار الأهوج، أما الآن فنشهد بداية استدارة أوروبية، متمثلة بخطوات عملية بدأت على أرض الواقع لحل أسس المشكلة بدلاً من الاختباء خلف الأصابع، والخطابات الرنانة في محافل النفاق الدولية ومجالس حقوق الإنسان، أو دوريات إغراق قوارب اللاجئين أو طردها أو ترك المئات يغرقون على شواطئ “الإنسانية”.
نشهد أيضاً خطوات روما في إجراء مفاوضات لإيقاف إطلاق النار في غزة، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني التي طالت بفعل العرقلة الأمريكية ورعونة ساسة اليسار ومدّهم “إسرائيل” بالسلاح والأموال.
حتى على صعيد الحرب الأوكرانية، فإن اليمين الأوروبي لم يعد يطيق نفقات الحرب التي تُدفع من أموال دافع الضرائب الأوروبي، بل تأتي على حساب مساعدة الدول الأوروبية ذات الاقتصادات الضعيفة، مثل المجر، وأيضاً على حساب شلّ الاقتصاد الأوروبي برمته الذي بات عاجزاً حتى عن شراء الأسمدة الروسية للنهوض بزراعته مقابل اضطراره لشرائها بأعلى الأثمان-على غرار الغاز وحوامل الطاقة- من أمريكا.
وبالتالي فإن كل ما يتم الحديث عنه حول، إن “اليمين لا يتسم بالإنسانية” يمحوه عمله بقرار وطني مستقل يحقق مصالح بلاده وقارته، لا مصالح أمريكا ومن لفّ لفها من مجمعات صناعية عسكرية أشعلت الأرض نيراناً.
وبالمقابل فإن تعنّت “اليسار الديموقراطي” الأوروبي الغارق حتى العظم في تنفيذ السياسات الأمريكية ضدّ إرادة شعوبه وضدّ القيم الإنسانية، لا بدّ من أن يمحو سيطرته على الحياة السياسية في أرجاء أوروبا لصالح اتجاه “أوربان- ميلوني”، ولصالح التعاون مع كل بلدان العالم، ولا سيما دول الجنوب العالمي.. فالكل بات يتفلّت من السطوة الأمريكية ويتوجه شرقاً لتحقيق نماء بلاده واستقلالية قراره عبر إرساء دعائم الأمن الجماعي.